الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس السؤال المطروح هو ما إذا كان الإنسان يفكر بعقله أم بقلبه، لأنه من المعلوم أنه إنما يفكر بعقله ولعل السائلة تقصد السؤال عما إذا كان مركز العقل هو القلب أم الدماغ؟ فهذا السؤال دائما يطرح هكذا في كتب العلماء: هل الإنسان يفكر بقلبه أم بدماغه؟ وحاصل السؤال هو: هل العقل الذي هو أداة التفكير في القلب أم في الدماغ؟
وهذه المسألة نالت قدرا كبير من الجدل بين العلماء قديما وحديثا، ومن أحسن الأجوبة التي وقفنا عليها جواب العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حيث بين أن أفعال الإنسان من الفهم والفكر والتدبر والهدى والضلال والإيمان والكفر كل هذه متعلقة بقلب الإنسان وهو المسيطر عليها، فقال رحمه الله في فتاويه:
ومن تلك البحوث قول عامتهم-أي الفلاسفة- إلا القليل منهم: إن محل العقل الدماغ، وتبعهم في ذلك قليل من المسلمين, ويذكر عن الإمام أحمد أنه جاءت عنه رواية بذلك، وعامة علماء المسلمين على أن محل العقل القلب .
وسنوضح إن شاء الله تعالى حجج الطرفين، ونبين ما هو الصواب في ذلك .
اعلم وفقنا الله وإياك أن العقل : نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية، وأن من خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود، وزين به العقلاء وأكرمهم به أعلم بمكانه الذي جعله فيه من جملة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي، وليس أحد بعد الله أعلم بمكان العقل من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال في حقه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. {النجم:3-4} . وقال تعالى عن نفسه: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ .{البقرة: من الآية140}.
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منها التصريح بكثرة بأن محل العقل القلب, وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين : لا يترك احتمالا ولا شكا في ذلك, وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح, وسنذكر طرفا من الآيات الدالة على ذلك، وطرفا من الأحاديث النبوية, ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومن تبعهم، ونوضح الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه بعض نصوص الوحيين :
قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا.{الأعراف: من الآية179} فعابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم ؛ والفقه هو: الفهم، والفهم لا يكون إلا بالعقل, فدل ذلك على: أن القلب محل العقل. ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها .
قال الله تعالى:أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. {الحج:46} ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها. ولم يقل : ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس. كما ترى، فقد صرح في آية الحج هذه بأن: القلوب هي التي يعقل بها، وما ذلك إلا لأنها محل العقل كما ترى. ثم أكد ذلك تأكيدا لا يترك شبهة ولا لبسا ؛ فقال تعالى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. فتأمل قوله تعالى: الَّتِي فِي الصُّدُورِ، تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح، ومعناه: أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سلب الله منها نور العقل، فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل، ولا بين الحسن والقبيح، ولا بين النافع والضار، وهو صريح بأن الذي يميز به كل ذلك هو العقل ومحله في القلب ....
ثم ذكر عددا كبيرا من الآيات وبين دلالتها، ثم قال رحمه الله:
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرناها والدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جدا كالحديث الصحيح والذي فيه: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. ولم يقل فيه: ألا وهي الدماغ.
وكقول أنس رضي الله : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا. ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك....
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا فلا نطيل بها الكلام .
الخلاصة: وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بين في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب, وخالقه أعلم بمكانه، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما رأيت .
ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون من أن محل العقل الدماغ ؛ هو: أن كل شيء يؤثر في الدماغ يؤثر في العقل . ونحن لا ننكر أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ؛ ولكن نقول بموجبه, فنقول : سلّمنا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ، ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ : فكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدماغ، فالعقل خارج عن الدماغ ؛ ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ ؛ كالأعضاء التي تختل باختلال الدماغ ؛ فإنها خارجة عنه مع أن سلامتها مشروط فيها سلامة الدماغ كما هو معروف...
فتحصل من هذا أن الذي يقول إن العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيء، أن قوله في غاية البطلان ؛ لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة جدا كما ذكرنا بعضه، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو إن كان كذلك : فليس بمسلم.
ومن قال: إنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيء فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه .
ومن جمع بين القولين ؛ فقوله : جائز عقلا، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة، ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه؛ ولا دليل عليه من النقل؛ فإن قام عليه دليل من عقل أو استقراء محتج به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله. انتهى.
وإذا كان القلب في نظر الأطباء هو العضَلة التي تُنظِّم توزيع الدمِ حسب حاجاتِ البدَن، فإنه في نظَر الإسلام هو مصدر التوجيه والقيادة في الإنسان الذي يُضلُّه ويهديه. وللاستزادة حول ما تركنا نقله خشية الإطالة تراجع فتاوى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، وسبقت لنا فتوى مطولة حول مكان العقل وفيها فوائد أخرى غير ماذكرناه فراجعها، ورقمها: 28023 .
والله أعلم.