الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأحاديث البخاري ومسلم مما تلقتها الأمة بالقبول واتفقت على صحتها في الجملة. ومنها ما هو قطعي الثبوت وهي الأحاديث المتواترة، ومنها ما هو ظني الثبوت وهي أحاديث الآحاد وتشمل سائر الأحاديث غير المتواترة. وهذا التفصيل نقله النووي عن أكثر العلماء. وذهب آخرون إلى أنها قطعية الثبوت، ومن هؤلاء الإمام أبو عمرو بن الصلاح.
قال النووي في التقريب:
وذكر الشيخ -يعني: ابن الصلاح- أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر.
وفي النكت على مقدمة ابن الصلاح: وأيضا فينقض بفعل العلماء في سالف الأعصار من تعرضهم لأحاديث الصحيحين، وترجيح بعضها على بعض باعتبار من سلم من الكلام على من لم يسلم منه وغير ذلك من وجوه الترجيحات، فلو كان الجميع مقطوعا به لانسد باب الترجيح.
قال السيوطي في تدريب الراوي:
وقال شيخ الإسلام-يعني ابن حجر-: ما ذكره النووي في شرح مسلم من جهة الأكثرين أما المحققون فلا، فقد وافق ابن الصلاح أيضا محققون.
وقال في شرح النخبة: الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم خلافا لمن أبى ذلك.
وقال ابن كثير:
وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه. قلت-أي السيوطي- وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه.
واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته فيهما ما تكلم فيه من أحاديثهما فقال:
سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره.اهـ بتصرف.
وقال ابن حجر في النكت:
واعلم أن هذا الذي قاله ابن الصلاح هو قول جماهير الأصوليين من أصحابنا وغيرهم، قد جزم به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فقال في كتابه أصول الفقه: الأخبار التي في الصحيحين مقطوع بصحة أصولها ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل في ذلك اختلاف في طرقها أو رواتها فمن خالف حكمه خبرا منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول. انتهى.
كل هذا من حيث الثبوت. أما من حيث الدلالة فتنقسم أحاديثهما أيضا إلى ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني الدلالة، شأنها في ذلك شأن غيرها من نصوص الكتاب والسنة.
وننبه السائل إلى أنه لا تلازم بين قطعية أو ظنية الثبوت وبين قطعية أو ظنية الدلالة؛ فالأول من مباحث الإسناد، والثاني من مباحث المتن.
وأيضا فلا يشترط للاحتجاج والعمل أن يكون النص قطعي الثبوت والدلالة؛ لأننا متعبدون بغلبة الظن.
وبعض المبتدعة يرد نصوص السنة بحجة أنها آحاد لا يلزمه اتباعها، أو ظنية الدلالة فلا يلزمه قبولها، وهو بذلك يحرم نفسه نور الوحي، وهدي الله؛ فإن القرآن وإن كان قطعي الثبوت، فأكثره ظني الدلالة، والسنة أكثرها ظني الدلالة ظني الثبوت، فمن اشترط للاحتجاج بالأدلة أن تكون قطعية الثبوت والدلالة، فقد رد معظم الشريعة، وناقض إجماع الأمة.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 13678.
والله أعلم.