الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالكلام الذي ذكره الإمام الفقيه السرخسي في المبسوط إنما ذكره في معرض رده على الشافعية القائلين باشتراط الرقبة المؤمنة في كفارة العتق، حيث إن الشافعية استدلوا بذلك على ما ذكره السرخسي ـ بآية وحديث الجارية الذي رواه مسلم، فأراد السرخسي أن يضعف قول الشافعية بتضعيف أدلتهم، فزعم أن في صحة الحديث كلاما، وأنه لا يظن بالرسول صلى الله عليه وسلم: أنه يطلب من أحد أن يثبت لله جهة أو مكانا، والرد على هذا القول من وجوه:
أولا: لم يبين الإمام السرخسي ما هو الكلام الذي يقدح في صحة الحديث حتى نرى هل هو كلام مبنى على أسس علمية أم لا؟ والإمام السرخسي إمام كبير في الفقة إلا أنه قليل البضاعة في الحديث شأنه شأن كثير من الفقهاء، ويدل على ذلك أنه يذكر في كتبه كثيرا من الأحاديث الضعيفة بل والتي لا أصل لها، وينسبها للنبي صلى الله عليه وسلم : ومثاله قوله في كتابه المبسوط: كما قال صلى الله عليه وسلم ـ أنا ابن الذبيحين.انتهى. وهذا الحديث لا أصل له، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني.
ثانيا: أن الحديث ثابت صحيح لا مجال للشتكيك فيه، وقد صححه جهابذة وعلماء الحديث وفرسانه، فقد أخرجه مسلم، وغيره من أهل الصحاح، كأبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود، وصححه أيضا البيهقي والبغوي والذهبي والعسقلاني وغيرهم، أفنترك تصحيح هؤلاء جميعا وهم أهل الحديث وعلماؤه ونأخذ بقول السرخسي: إن في صحة ذلك الحديث كلاما؟.
ثالثا: هذا الحديث تشهد له النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي فيها إثبات علو الله تعالى، كقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {آل عمران:55}.
بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {النساء:158}.
وقوله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ {فاطر:10}.
وقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ {الملك:16-17}. وقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {طـه:5}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: الراحموان يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء. رواه أبو داوود. وقوله صلى الله عليه وسلم: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء. متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.
وغير ذلك من الأدلة الكثيرة المبثوثة في السنة والآثار الكثيرة عن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين الدالة على إثبات علو الله تعالى، وأنه فوق السماء السابعة، وكلها تشهد لحديث الجارية.
رابعا: لفظ الجهة والمكان الذي ذكره السرخسي لفظ محدث لم يرد في الحديث، ويمكن أن يكون مراد السرخسي بذلك نفي إحاطة شيء بالله تعالى وهذا معنى صحيح، وإن أراد بذلك نفي العلو فهذا باطل. والحجة في كلام الله تعالى وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.