الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تطلق إطلاقين، فتطلق ويراد بها أمة الدعوة، وهم كل من أرسل إليهم النبي صلى الله من الناس كافة عربا وعجما، كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم. فقوله "من هذه الأمة" أي: أمة الدعوة، حيث جعل منها اليهود والنصارى.
وتطلق ويراد بها: أتباعه المؤمنون به، الحاملين لشريعته، وهم أمة الإجابة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح غريب. وأحمد، وصححه الألباني. وراجع في ذلك الفتويين: 11475، 76858 .
وهؤلاء هم الذين ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لي: انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. متفق عليه.
وأمة الإجابة تنال بذلك فضائل عظيمة، كقوله صلى الله عليه وسلم: إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا؟ قال قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء. متفق عليه.
ومن بلغته دعوة الإسلام فأقيمت عليه الحجة، فشهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمدا رسول الله، فأقر لله بالتوحيد ولم يقر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فليس من أمة الإجابة، بل هو من أهل النار والعياذ بالله، كما في حديث أبي هريرة السابق. فلابد من اقتران الشهادتين، بل لابد من الإيمان بجميع الرسل ليخرج العبد من دائرة الكفر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا . {النساء:150، 151}.
وعلى ذلك، فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقبل ممن سمع بها مجرد الإقرار لله بالتوحيد، فلا يكفى النصراني مثلا أن يوحد الله ويعتقد أن عيسى عبد الله ورسوله، بل لابد من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فليس هو من أمة الإجابة، ومصيره يكون إلى النار.
وقد سبق لنا تفصيل هذا المعاني في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 3670، 17856، 59524، 64513، 5750، 7299.
كما سبق أن بينا خصائص الرسالة المحمدية في الفتوى رقم: 68822.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. متفق عليه. فلا يخص وقت نزول عيسى في آخر الزمان، وإنما المراد بيان الفرق بين الإسلام من جهة وبين اليهودية والنصرانية من جهة أخرى، فاليهود يقدحون في عيسى ويكفرون برسالته، والنصارى يؤلهونه ويجعلونه ابنا لله.
قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم، فاختصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم. اهـ.
وفي (فتح الباري) لابن حجر: ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله: "عبده". وفي ذكر "رسوله" تعريض باليهود في إنكارهم رسالته وقذفه بما هو منزه عنه، وكذا أمه. اهـ.
والله أعلم.