الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المسيء يحاسب لأنه هو الذي أساء، وفعل الإساءة بمشيئته وإرادته واختياره... قال الشنقيطي في أضواء البيان: وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء. ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، كحركة المرتعش فرقا ضروريا، ولا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر، فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك, بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إن هذا بإرادتك ومشيئتك. وانظر للمزيد في الفتوى رقم: 129808.
فإذا تقرر أن للعبد مشيئة وإرادة، وأنه ليس مجبراً على أفعاله، فلماذا لا يحاسب عليها؟! وأما علم الله الأزلي فلا يلزم منه أن العبد مجبور على أفعاله، كالريشة في مهب الريح، وأنه معذور في إساءته.. قال الشنقيطي رحمه الله: وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية، وأما القدرية: فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا عن غير تأثير لقدرة الله فيه، وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب، ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل وإني لا بد أن تنفذ فيَّ مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعا تسمع به وبصراً تبصر به وعقلا تعقل به وأرسل لك رسولا وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض إن أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل، كما أشار له تعالى بقوله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ. بمعنى أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل. انتهي من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وقال أيضا في أضواء البيان: ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه, فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وعموما فينبغي للإنسان أن ينشغل بما أمره الله به، وأما الانشغال بسر القدر والتعمق والنظر فيه فهو ـ كما قال الإمام الطحاوي رحمه الله: ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم111938 وما أحيل عليه فيها
والله أعلم.