الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله تعالى أن يشفيك ويعافيك، وأن يجنبك مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأما ما ذكرت من أمر المس فنوصيك بالصبر والمداومة على أسباب الشفاء من الاستقامة على أمر الله واجتناب معاصيه ولزوم تقواه، وحسن الظن والاستعانة به، وصدق التوكل عليه، ورفع الحوائج إليه، والإلحاح في الدعاء، وملازمة الذكر وقراءة القرآن خاصة سورة البقرة وآية الكرسي، والرقية الشرعية .. ففي الصبر على ذلك الشفاء والعافية والعاقبة الحسنة بإذن الله تعالى.
وأما مسألة الوقوع في المعاصي وسماع سب الذات الإلهية، فهي ذات شقين:
ـ الأول: ما يتعلق بوقوع السائل في المعصية، والواجب أن يجتنب ذلك، لا سيما وهو في كرب وشدة، فقد قال تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{الأنعام : 43}
وقال: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ{المؤمنون:76،75}
فإن بدر منك شيء فاستغفر الله تعالى وتب إليه في الحال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كتب واحدة. رواه الطبراني والبيهقي، وقال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها وثقوا. اهـ. وحسنه الألباني. ثم أتبع ذلك بحسنة ماحية، فقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ{هود: 114}
وقال صلى الله عليه وسلم: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وأحمد، وحسنه الألباني.
قال ابن تيمية: وأتبع السيئة الحسنة تمحها. فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا هو الذي مضر أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات اهـ.
ـ الثاني: ما يتعلق بسماعه سب الذات الإلهية من الشيطان، ووسوسته له بأنه يكون بذلك قد وقع في الكفر المخرج من الملة والصواب خلاف ذلك، فإن كره السائل لسماع ذلك يعد من الحسنات المتقبلة إن شاء الله، وهذا من صريح الإيمان ومن علامات صحة الاعتقاد، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم. قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك اهـ.
ثم إن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومن الواضح أن إسكات هذا الصوت الساب خارج عن قدرة السائل، فسماعه لذلك له حكم الإكراه، وبالتالي لا يتسنى له السؤال عما سأل عنه من عدد المرات.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن الأمر لو كان كما يُفهَم من السائل من حصول التخاطب بينه وبين هذا الجني، فإنه إن سمعه يفعل ما ذُكر من السب ينبغي أن يبادر بتنزيه الله وتسبيحه، وأن يأمره بالمعروف وينهاه عن الكفر والمنكر، فإذا فعل ذلك فلعل الله أن يكفيه هذا الشر بما شاء، وإلا يكون قد أدى ما عليه وازداد من الحسنات.
فإن الله تعالى لما قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام: 68}
قال بعدها: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأنعام 69}قال السعدي: هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم لعلهم يتقون الله تعالى اهـ.
والخلاصة أن فعل المعصية في الأصل لا يزيد عن كونه معصية ولو في الحال التي ذكر السائل، ما دام كارها لهذا السب، مراعاة ً لحال الملازمة التي لا يستطيع السائل الفكاك منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
وأخيرا ننبه السائل الكريم على أن مجرد حضور مجلس نحو المذكور في قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء : 140} لا يخرج العبد من الملة هكذا بإطلاق، فإن هذا إنما يكون مع الرضا بقولهم وإقرارهم عليه. فالمثلية المذكورة في الآية لها درجات متفاوتة، قال ابن عاشور في (التحرير والتنوير): هذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف، ولا يصير المؤمن منافقاً بجلوسه إلى المنافقين، وأرَيد المماثلة في المعصية لا في مقدارها، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي اهـ.
وقال الطبري: يعني فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه اهـ.
وقال ابن كثير: { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } أي في المأثم، كما جاء في الحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر اهـ.
والله أعلم .