الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
قال السعدي: هذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم. اهـ.
ولا يخفى ما في هذا الاعتقاد من السكينة والطمأنينة واستقامة القلب وصلاح الحال والبال، كما قال عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ. {التغابن: 11}.
قال ابن كثير: أي: من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه. اهـ.
وقال السعدي: هذا عام لجميع المصائب، في النفس والمال والولد والأحباب ونحوهم، فجميع ما أصاب العباد فبقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علم الله، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند الله فرضي بذلك وسلم لأمره، هدى الله قلبه، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، كما يجري لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب، كما قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. وعلم من هذا أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ قضاء الله وقدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل ويكله الله إلى نفسه، وإذا وكل العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة، على ما فرط في واجب الصبر. اهـ.
فعمل السائل الكريم في مجال غير مجال البترول إنما هو بقدر الله تعالى، سواء كان ذلك هو الأفضل أو غيره، وسواء كان مصيبا في اختياره أو مخطئا، فإن ذلك كله بقدر الله تعالى، فعن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس. رواه مسلم.
قال النووي: معناه أن العاجز قد قُدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه. اهـ.
وقال ابن حجر: الكَيْس ضد العجز، ومعناه الحذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك للإشارة إلى أن أفعالنا وإن كانت معلومة لنا ومرادة منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئة الله. اهـ.
وقال ابن عبد البر: قال الله عز و جل: إنا كل شيء خلقه بقدر (القمر: 49) وقال تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله. (الإنسان 30). فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن يتقدمها مشيئة الله تعالى، وإنما تجري العباد فيما سبق من علم الله، والقدر سر الله لا يدرك بجدال، ولا يشفي منه مقال، والحجاج مرتجة مغلقة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء، وقد تواترت الآثار عن السلف الصالح بالنهي عن الجدال فيه والاستسلام له والإيمان به. اهـ.
ولا يتعارض هذا مع كون الله تعالى قد أعطى الإنسان إرادة بها يختار، وقدرة بها ينفذ، فهو المكتسب لأفعاله المختار لها، وهذا يجده كل إنسان من نفسه، ولا يجادل فيه إلاّ مكابر، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 16183. ولذلك كان الصواب إذا أصاب العبد ما يكرهه أن ينسبه إلى نفسه لا إلى الله تعالى، فليس من الأدب أن ينسب الشر إلى الله، وإن كان هو خالقه وموجده سبحانه. كما قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً. {الجن:10}. وقال عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. {الشورى: 30}. وقال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. {آل عمران: 165} وقال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. {النساء: 79}.
قال السعدي: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي: في الدين والدنيا { فَمِنَ اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر اهـ.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يثني على ربه تبارك وتعالى بقوله: الخير كله بيدك، والشر ليس إليك. رواه مسلم. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 121395.
وأما السؤال عن تغيير الحال لو كان السائل رجع إلي بلده وعمل في مجاله، فهذا لا يعلمه إلا الله، فهو سبحانه الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان سيكون. وإنا نوصي السائل الكريم أن يتدبر ما سبق ولا يتحسر على ما فاته، وليعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
والله أعلم.