الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
أما بالنسبة للسؤال، فقد تكلم أهل العلم قديما وحديثا عن حكم الرواية عن أهل البدع، وسنكتفي بالنقل عن المعاصرين لسهولة عبارتهم.
قال الشريف حاتم العوني في كتابه (التخريج ودراسة الأسانيد): مسألة الرواية عن أهل البدع، قد اختلف فيها أهل العلم كثيراً، فمنهم من منع الرواية عن المبتدعة مطلقاً، ومنهم من قبلها عنهم مطلقاً، ومنهم من فصّل، واختلفوا أيضاً في هيئة هذا التفصيل. والراجح في رواية المبتدع أنها لا تقبل إلا بالشروط الآتية:
الشرط الأول: أن لا يكون مُكفراً ببدعته، فمن كفَّرَهُ أهل السنّة والجماعة بعينه، فهذا لا يستحق أن يذكر في زمرة المسلمين فضلاً عن أن يكون من الرواة المقبولين.
الشرط الثاني: أن لا يكون فيه سببٌ لردّ الحديث سوى البدعة، أي أن يكون معروفاً بالتقوى والورع، ومُعظماً لحرمات الدين، وضابطاً ...إلخ، فالمقصود : أن لا يكون فيه طعنٌ سوى البدعة.
الشرط الثالث: أن يكون غير معاندٍ متبع للهوى، وهي التي يُعبر عنها العلماء بقولهم: أن لا يكون داعية، وقد عبّر عنها الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بقوله: أن لا يكون معانداً. فعبّر بالمعاند ولم يُعبر بمطلق الداعية. ومَنْ نقل الإجماع كابن حبان والحاكم على عدم قبول الداعية، فيغلب على الظن أنهم يقصدون الداعية المعاند الذي يتبع الهوى، فيعرف الحق و يُصرّ على الباطل استكباراً وعناداً، فهذا غير متأول، فلا نقبل روايته مطلقاً، أما المتأول فيُتساهل مع روايته دون الأول.
الشرط الرابع: أن لا يروي حديثاً منكراً يؤيد بدعته. اهـ.
وأما بالنسبة للصحيحين وما فيهما من الرواية عن أهل البدع، فقد تعرض الباحث أبو بكر كافي في أطروحته للماجستير -وهي بعنوان (منهج الإمام البخاري)- لهذه المسألة وذكر ما فيها من أقوال مختلفة لأهل العلم، سواء في البدع المكفرة أو غير المكفرة، ثم قال: بعد أن سردت أقوال الأئمة ومذاهبهم في الرواية عن أهل البدع والأهواء، فقد تبين أن مذاهبهم متباينة جداً. امتزجت فيها أقوال المحدثين بآراء علماء الكلام والأصول. فلا بد من استجلاء الموقف العملي للمحدثين من خلال مصنفاتهم، ومن هؤلاء الإمام البخاري - رحمه الله - فكيف تعامل مع روايات أهل البدع في صحيحه ؟ إذا تأملنا رجال البخاري - رحمه الله - نجد جملة كبيرة منهم قد رموا ببدع اعتقاية مختلفة وقد أورد الحافظ في " هدي الساري " من رمي من رجال البخاري بطعن في الاعتقاد فبلغوا (69) راوياً، ومن خلال التتبع لهؤلاء الرواة يمكن أن نستخلص المعايير التي اعتمدها البخاري في الرواية عن أهل البدع ويمكن أن نجملها في النقاط التالية :
ـ ليس فيهم من بدعتهم مكفرة.
ـ أكثرهم لم يكن داعية إلى بدعته، أو كان داعية ثم تاب.
ـ أكثر ما يروي لهم في المتابعات والشواهد.
ـ أحياناً يروى لهم في الأصول لكن بمتابعة غيرهم لهم.
ـ كثير منهم لم يصح ما رموا به.
إذن فالعبرة إنما هي صدق اللهجة، وإتقان الحفظ، وخاصة إذا انفرد المبتدع بشيء ليس عند غيره. وما ذهب إليه البخاري هو مذهب كثير من المحدثين، ومن هؤلاء تلميذه وخريجه الإمام مسلم، فقد روى في صحيحه عن أهل البدع والأهواء المعروفين بالصدق والإتقان، وخاصة إذا انضم إلى ذلك الورع والتقوى، وما ذهب إليه الشيخان هو رأي أكثر الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما توقف من توقف منهم في الرواية عن أهل البدع إما لأنه لم يتبين لهم صدقهم، أو أرادوا محاصرة البدعة وإخمادها حتى لا تفشوا، ولكن شاء الله تعالى أن تكثر البدع وتفشو، وتبناها كثير من العلماء والفقهاء والعباد، فلم يكن من المصلحة ترك رواياتهم، لأن في تركها، اندراساً للعلم، تضييعاً للسنن. فكانت المصلحة الشرعية تقتضي قبولها ما داموا ملتزمين بالصدق والأمانة. قال الخطيب البغدادي - بعد أن ذكر أسماء كثير من الرواة احتج بهم وهم منسوبون إلى بدع اعتقادية مختلفة : دون أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقارنة الصواب . وقال علي بن المديني : لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب. اهـ.
وقد سبق لنا بيان من تقبل روايته للحديث ومن لا تقبل، في الفتوى رقم: 11055. وأن التعرض لكتب السنة بالنقد لابد أن يكون بالأصول والضوابط العلمية، في الفتوى رقم: 39014.
ومما تقدم تعلمين أن النتيجة التي انتهى إليها كاتب البحث المذكور تهويل وتدليس وكذب ودعوى عريضة لا تقوم على برهان.
ثم ننبه السائل الكريم على أن ما روي في وصف المرجئة بأنهم مجوس، لا يصح إسناده، بخلاف وصف القدرية فقد حسن بعض أهل العلم ما ورد في وصفهم بكونهم مجوس هذه الأمة. وقد سبق هذا الحديث مع بيان بطلان عقيدة القدرية، في الفتوى رقم: 9192 . وسبق لنا أيضا بيان معنى الإرجاء وبيان عقيدة المرجئة في الفتويين: 10346 ، 20932.
والله أعلم.