الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن شأن المسلم أن يستجيب لأمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وألا يقدم بين يديهما، فقد قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا{الأحزاب:36}
وقال سبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {النــور:51}
والله سبحانه قد أوصى الأبناء بآبائهم وأمرهم ببرهم وإكرامهم فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا{الإسراء:23}
قال القرطبي في الجامع لأحكام القران: وقل لهما قولا كريما أي لينا لطيفا مثل يا أبتاه ويا أماه من غير أن يسميهما ويكنيهما. قال عطاء: وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القران من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله وقل لهما قولا كريما ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. انتهى
والله سبحانه لم يعلق الأمر ببر الآباء وإكراههم على كونهم محسنين لأبنائهم وإنما علقه على مجرد الأبوة حتى ولو كانا مشركين يدعوان ابنهما إلى الشرك بالله والكفر به فعليه حينئذ أن يصاحبهما بالمعروف. قال سبحانه: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:15}
فينبغي إكرام الوالدين وإن أساءا، لكن إن خفت أن يلحقك ضرر أو أذى من صلتك له فاقتصر في البر على القدر الذي لا يحصل معه الأذى، وإن كنا بهذا لا نبرر للأب ما يفعله، فإنه ولا شك مخطىء عاص لله سبحانه في تصرفاته معك، مضيع لوصية الله له فيك، فإن الله كما أوصى الأبناء بآبائهم أوصى كذلك الآباء على أبنائهم فقال سبحانه: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ {النساء:11}.
قال السعدي رحمه الله: أي أولادكم يا معشر الوالدين عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية. انتهى
ولكن وبال عصيانه وإساءته إنما يعود عليه، وحسابه في ذلك على ربه، وأنت لا يسعك في هذا إلا الصبر والعفو، فإن هذا ابتلاء من الله لك ليرى امتثالك لأمره وصبرك على قضائه، واعلم أن الخير كله في الصبر على قضاء الله وقدره قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{ البقرة:157،156،155}
يقول ابن القيم رحمه الله: فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة، فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب.
والله أعلم.