الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه التحاضير حق لأصحابها، ولا يجور شرعا الاعتداء عليها، ولا استخدامها دون إذنهم، لا سيما وقد طلبوا ذلك، بل واستحلفوا الناس عليه. وقد سبق لنا تفصيل ذلك ونقل قرار المجمع الفقهي بشأنه، فراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 6080 ، 15242، 34828 ، 112583.
وعلى ذلك، فلا يجوز بيعها دون إذن أصحابها، والربح المكتسب من وراء ذلك أكل لأموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ {النساء: 29}
ومن فعل ذلك فعليه أن يتوب إلى الله، ويكف عن هذا الكسب المحرم، وما سبق اكتسابه بهذه الطريقة يجب أن يطلب السماح بشأنه من أصحاب هذه التحاضير، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه. رواه البخاري. فإن عفوا عن حقهم ففضل من الله ونعمة، وإلا وجب التفاوض معهم بشأن اقتسام الأرباح والتصالح على ذلك، فإن قبلوا وإلا دفع إليهم الربح كاملا، معاملة للمتاجرين بجهد الناس وحقوقهم بنقيض قصدهم، وعقوبة لهم على سوء صنيعهم. ولقاعدة: (من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه). وإن جُهِل قدر هذا الربح عمل بالاجتهاد والتقدير وغلبة الظن.
هذا بالنسبة لصاحب المكتب. فإن فعل ذلك فليس على العاملين فيه بعد ذلك إلا أن يتوبوا إلى الله من المشاركة والإعانة على هذا العمل. وأما إن لم يفعل ذلك ولم يستحل أصحاب الحقوق ولم يتخلص من هذه التبعة، فما تقاضاه العامل نظير مشاركته في بيع هذه التحاضير على الخصوص لا يحل له امتلاكه ولا الانتفاع به، ما دام يعلم حقيقة الحال؛ كأجرة الإعانة على الغصب لمن علم الحال، فإن الإجارة على المنافع المحرمة عقدها باطل ولا تستحق به الأجرة.
سئل ابن حجر الهيتمي عمن غصب شيئا فاستأجر من يحمله فهل يستحق الأجير أجرة المثل أو المسمى ؟ فأجاب: بما يفيد أنه يستحق أجره المثل لا المسمى ما لم يعلم أن المستأجر غاصب، وقال: وقيده ابن عجيل بما إذا لم يعلم الغصب وإلا لم يستحق شيئا بل يضمنه أيضا هـ.
ومقتضى الحكم بالتضمين هنا أن السائل لا يعفيه من المسئولية كونه عاملا وليس صاحب العمل، والقاعدة عند الفقهاء أن (الأمر بالتصرف في ملك الغير باطل).
ولذلك فعليه أن يتخلص مما في يده من هذا المال برده لصاحب الحق، وعليه في المستقبل أن يمتنع عن المشاركة والإعانة في خصوص بيع هذه التحاضير، والأفضل أن يترك العمل في هذا المكتب بالكلية.
جاء في (كفاية الطالب الرباني) أن الإجارة قد تكون حراما مثل أن يؤاجر نفسه لمعروف بالغصب ونحوه مما فيه حرام اهـ.
فعلق العدوي في حاشيته فقال: "قوله: مما فيه حرام إلخ" الأولى أن يقول: مما هو حرام كالسرقة هـ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): لا يجوز الاستئجار على المعاصي لأن المعصية لا يتصور استحقاقها بالعقد فلا يجب على المستأجر أجر من غير أن يستحق هو على الأجير شيئا هـ.
وأما من كان عمله في هذا المكتب بعيدا عن هذا الأمر، فلا يشارك فيه ولا يعين عليه؛ لأن عمل هذا المكتب غير قاصر على بيع هذه التحاضير، كما ورد في السؤال، فهذا حكمه حكم من يعمل في مكان ربحه مختلط بين الحلال والحرام، وهذا مكروه وليس بحرام، على الراجح، وراجع في ذلك الفتويين: 128449 ، 121862 وما أحيل عليه فيهما. والفتويين: 11095 ، 63411 .
والله أعلم.