الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه الشريعة المطهرة الكاملة أتت بتحصيل المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها، ومن أعظم المصالح بلا شك التمسك بالسنن وإحياؤها وبخاصة في زمن غفلة الناس عنها، ولكن إذا تعارض العمل بالسنة مع سنة أخرى أرجح منها كان على الفقيه أن يقدم أعلى المصلحتين، وكذا إذا كان العمل بالسنة يترتب عليه مفسدة راجحة، فإن الفقيه يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة، فإذا ترك المسلم سنة معينة لأجل تأليف القلوب وعدم حدوث النفرة لم يكن بذلك مضيعا للسنة، بل هو مأجور على تقديمه المصلحة الأهم وهي تأليف القلوب ودفع التنافر والخلاف، وذلك من أعظم المقاصد الشرعية، فيكون بهذا تاركا لسنة لأجل التمسك بما هو آكد منها، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المعنى في غير موضع من كلامه، وبين أن ترك بعض المستحبات في بعض الأحيان مراعاة للمصلحة الراجحة مما ينبغي العناية به، ومن كلامه في ذلك قوله رحمه الله: ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر. انتهى.
وقال رحمه الله أيضا: ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.
وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر. ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة ائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك. انتهى.
ولكن ينبغي أن تقدر الأمور بقدرها وتوضع في نصابها، فلا تترك السنن لأجل مجرد توهم أن الناس قد يستنكرونها، وقد يؤدي فعلها إلى حصول النفرة، بل متى غلب على الظن أنه لن يترتب على العمل بالسنة مفسدة راجحة فينبغي العمل بها وتبيين وجهها للناس إن كانوا جهالا بها، وإذا غلب على الظن حصول تلك المفسدة فليتبع ما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام رحمه الله.
وليجتهد طالب العلم في تحبيب الناس في السنة وترغيبهم في العمل بها حتى إذا ترسخ لديهم هذا الأصل بدأ في تعويدهم ما يجهلونه من السنن في تؤدة ورفق، وبذلك يحصل الجمع بين المصلحتين إن شاء الله، فيجتمع الناس وتأتلف قلوبهم، ويكون هذا الاجتماع على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا عن جواب الإشكال الذي أوردته بخصوص كلام صديقك هذا.
وأما عن المسألتين التين أوردتهما، فاعلم أن التنفل على الراحلة جائز، ومن ذلك الحافلة، وذلك خاص بمن كان مسافرا في قول الجمهور، فلا يتنفل راكب الراحلة في الحضر خلافا لبعض العلماء كابن حزم رحمه الله، وراجع الفتوى رقم: 73097، والذي نظنه أن بيان هذه المسألة للناس وذكر أدلتها وكلام العلماء فيها أمر يسير، ولا يغلب على الظن حصول مفسدة أو نفرة للقلوب جراء هذا، فإن غلب على الظن أن الناس لا يستوعبون مثل هذا الحكم مما قد يجر إلى الشر والفساد فالقول هو ما مر بك.
وأما سنة الجمعة القبلية ففي مشروعيتها خلاف بين العلماء، والراجح أنها غير مشروعة وأن الجمعة ليس لها سنة قبلية، وإنما يشرع التبكير للجمعة، وأن يصلي المصلي ما شاء حتى يصعد الخطيب المنبر، وانظر بيان ذلك في الفتوى رقم: 114826، وما أحيل عليه فيها، ومن بكر بالحضور للجمعة فإنه يصلي ما شاء اتباعا للسنة، وحسبه في مخالفة الناس أنه لا يتعمد القيام بعد الأذان الأول لصلاة مخصوصة فهذا كاف فيما يظهر في بيان مذهبه، وأنه لا يرى مشروعية السنة القبلية للجمعة، ثم المسألة من مسائل الخلاف التي ليست محلا للتشديد كما مر، فلو صليت في هذا الوقت ريثما يصعد الخطيب المنبر فأنت على خير، ولا نرى أن ثم مصلحة راجحة في ترك الصلاة إذن، وحسبك أن تبين للناس بقولك إن الجمعة ليس لها سنة قبلية إن قدرت على ذلك وأن المشروع قبلها هو التنفل المطلق.
والله أعلم.