الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلم نفهم مراد السائل بما حكاه من قول النصراني: إن المسلمين يخدمون عندهم بحائط المبكى، فنريد منه إيضاح ذلك؛ حتى تتسنى لنا الإجابة عن سؤاله.
وأما ادعاؤه أن القدس ليست من حق المسلمين، فجوابه في قوله تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {الأعراف:128}، فالقدس، وكل الأرض، ملك لله جل وعلا، والمسلمون أحق الناس بوراثة هذه الأرض؛ لأن الإسلام هو الدِّين الذي لا يقبل الله غيره، ويجب على كل الأرض أن تدين به، قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
وهو دين للناس كافة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال سبحانه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا... [الأعراف:158]، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ... [سـبأ:28]، وقال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [صّ:87]، وقال صلى الله عليه وسلم: كان النبي يبعث في قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. رواه البخاري، ومسلم.
فالواجب على المسلمين هو: بذل الوسع في أن يكون أهل الأرض خاضعين لحكم الله تعالى، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الجيوش ليدعوا الناس إلى الإسلام، فيعرضونه عليهم، فإن أبوا، عرضوا عليهم الجزية، فإن أبوا، قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
والأرض المقدسة، وما حولها من جميع بلاد فلسطين، والشام، والأردن، ملكها العرب قديمًا قبل مجيء بني إسرائيل إليها، فقد أسس الكنعانيون فيها المدن، وأقاموا حضارة ظاهرة معلومة، وسميت الأرض باسمهم، فقيل لها: أرض كنعان، أو أرض اليبوسيين، وهم من الكنعانين، والكنعانيون قبائل عربية، وطنها الأصلي شبه الجزيرة العربية، لكنهم هاجروا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد حارب بنو إسرائيل القبائل العربية المستولية على تلك المنطقة، واستطاعوا وصول الأرض المقدسة، وإقامة دولتهم فيها، ثم وقعت فلسطين تحت الحكم البابلي، ثم الفارسي، ثم اليوناني، ثم اليهودي الكابي، ثم الروماني، وتم تدمير أورشليم (القدس) عام 70م، وبتحول الإمبراطورية الرومانية إلى النصرانية عام324م، خضعت فلسطين للحكم النصراني، إلى أن جاء الفتح الإسلامي عام 638م.
واستمرت خاضعة لحكم المسلمين طول هذه القرون، باستثناء فترة وقوعها تحت الغزو الصليبي من عام 1099 إلى 1187م، ومن 1229 إلى 1239م.
لكن نحن المسلمين لا نتمسك بحق الوجود في هذه الأرض المباركة اعتمادًا على الوجود العربي السابق فيها على وجود اليهود والنصارى، ولكنا نعتمد في ذلك على ما حكم به رب العالمين من أن الأرض له يورثها من يشاء من عباده، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128].
وقد كان الفتح الإسلامي للقدس وما حولها إنقاذًا حقيقيًّا للنصارى من الاضطهاد الروماني، الذي عانوا منه زمنًا طويلًا، وكان ما شاهدوه من عدل المسلمين، ورحمتهم، وتمسكهم بدينهم سببًا في دخول أكثرهم في الإسلام، وظل من تمسك منهم بملته آمنًا مطمئنًا على نفسه، لم يجبر لحظة على الدخول في الإسلام.
ولما تخلى المسلمون عن دِينهم، وضعف تمسكهم به، تلاعب بهم اليهود والنصارى، وأدخلوا إلى أرض فلسطين الجماعات اليهودية المنبوذة من شعوب العالم، فعملت على تهجير المسلمين من أرضهم، وغصب ممتلكاتهم، إلى غير ذلك من صور الظلم، وألوان الاضطهاد، الذي لا تقره شريعة، ولا يسوغه عرف، أو مبدأ، أو قانون.
وحين يعود المسلمون إلى دينهم، ويعتصمون بكتاب الله، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بأسباب النصر والتمكين، ستعود لهم السيادة الكاملة على فلسطين، وغيرها؛ تنفيذًا لوعد الله تعالى الذي لا يتخلف: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
والله أعلم.