الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلم أن العلماء اختلفوا في البعيد عن الكعبة: هل فرضه استقبال عينها أو جهتها، والصحيح عند الشافعية وجوب إصابة العين، ومذهب الجمهور أنه يكفي في ذلك إصابة الجهة، واستدلوا بحديث أبي هريرة المذكور في السؤال: ما بين المشرق والمغرب قبلة.
قال النووي موضحا أدلة العلماء ومذاهبهم: واحتج الأصحاب للقول بالعين بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة خرج فصلى إليها وقال هذه القبلة. رواه البخاري ومسلم.
وهو حديث أسامة بن زيد الذى ذكره المصنف في أول الباب.
واحتجوا للجهة بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة. رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه موقوفا عليه.
فرع: في مذاهب العلماء في ذلك: قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أن الواجب إصابة عين الكعبة، وبه قال بعض المالكية ورواية عن أحمد.
وقال أبو حنيفة: الواجب الجهة، وحكاه الترمذي عن عمر رضي الله عنه وعن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن المبارك. انتهى.
وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الراجح ـ إن شاء الله ـ هو إجزاء استقبال الجهة، وأنه لا يجب إصابة العين إلا لمن يشاهد الكعبة أو تمكنه مشاهدتها، قال ابن رشد في بداية المجتهد مرجحا هذا القول: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة، يدل على أن الفرض ليس هو العين، أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة، والذي أقوله: إنه لو كان واجبا قصد العين، لكان حرجا، وقد قال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج.
فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة، واستعمال الإرصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد؟ ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الإرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها.
وفي الروض مع حاشيته: وفرض من بعد عن الكعبة استقبال جهتها، فلا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران عرفا، لحديث: ما بين المشرق والمغرب قبلة ـ وغيره، وتقدم، ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة والصف الطويل مستويا، ولأن التكليف بحسب الوسع، قال في الإنصاف والمبدع وغيرهما: البعد هنا هو بحيث لا يقدر على المعاينة، ولا عن من يخبره بعلم، وقال غير واحد من الأصحاب: ليس المراد بالبعد مسافة القصر، ولا بالقرب دونها، والجهة الناحية كالوجة وأصلها وجهة، قال الواحدي: الوجهة اسم للمتوجه إليه، والوجهة مستقبل كل شيء. انتهى.
وقال في تحفة الأحوذي في شرح هذا الحديث:
وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث؟ فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت، فإنه إن زال عنه شيئا ـ وإن قل ـ فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق وأشار بيده، وهذا المغرب وأشار بيده، وما بينهما قبلة، قلت له: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال نعم، وينبغي أن يتحرى الوسط.
قال بن عبد البر: تفسير قول أحمد: هذا في كل البلدان ـ يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها مابين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة، إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلا، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا، ثم هي لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا.
وقد استدل القائلون بالجهة بتلك الآيات التي ذكرتها، فإن معنى: شطر المسجد الحرام ـ أي نحوه وجهته، قال القاسمي ـ رحمه الله: فول وجهك شطر المسجد الحرام ـ أي نحوه وجهته، والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. انتهى.
وبما قدمناه تعلم أن من عبرت عنهم بقولك: بعضهم ـ هم الجمهور من أهل العلم، وهم من أكابر الأمة وفضلائها، وليس ذلك إهمالا منهم لأمر القبلة، بل هو إعمال منهم للدليل الذي رأوا قوته.
وتعلم ـ كذلك ـ أن الأولى هو إصابة العين إن أمكن خروجا من الخلاف، ولتصح الصلاة بيقين، فإن استطعتم إصلاح هذه القبلة وجعلها إلى عين الكعبة كان ذلك أولى وأحسن بلا شك.
وإن تعذر ذلك وكان الانحراف يسيرا بحيث يصدق على المصلين أنهم مستقبلون لجهة الكعبة فالأمر يسير ـ والحمد لله ـ وقد وسع الله على عباده في هذا، فلم يشق عليهم ولم يجعل عليهم في دينهم من حرج وقد رأيت كلام العلماء المتقدم، وإن ترجح لك وجوب استقبال العين فلا تصل في هذا المسجد، ولكن يجب عليك أن تعذر إخوانك في هذه المسألة، لأن مسائل الاجتهاد لا توجب التباغض والتعادي بين المسلمين.
وإن كان الانحراف كثيرا بحيث لا يصدق على المصلين أنهم مستقبلون لجهة الكعبة فتغيير القبلة إذن واجب ولا تصح الصلاة إلى تلك القبلة المنصوبة والحال هذه.
والله أعلم.