الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الكلام المذكور فيه خلط كثير ومجانبة لطريقة أهل العلم في المناقشة والاستدلال، وظاهر جدا عدم رسوخ قدم كاتب هذا الكلام في العلم الشرعي الشريف، وهذه المسألة من المسائل المقتولة بحثا فلسنا بحاجة لتكرار ما كتبناه فيها من قبل في فتاوى كثيرة جدا وما كتبه غيرنا في بيان حكم الشرع في هذه المسألة، ولكننا نحيلك اختصارا على الفصل الذي عقده ابن القيم ـ رحمه الله ـ في إغاثة اللهفان حول هذه المسألة، وكتاب تحريم آلات الطرب للألباني ـ رحمه الله ـ ولكننا ننبه على بعض ما وقع في هذا الكلام من التلبيس والإيهام غير قاصدين للاستقصاء حذر الإطالة والإملال.
أولا: تحريم المعازف متفق عليه بين الأئمة الأربعة وعامة أصحابهم، فهو قول جماهير أهل العلم، وأما الغناء غير المصحوب بالمعازف ففيه خلاف بين العلماء، فالخلط بين المسألتين غلط وهو ما وقع في كلام هذا الكاتب يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله: مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير، والمعازف: هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة، وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال. وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا، وذكر زكريا بن يحيى الساجي ـ وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي: أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة. انتهى بتصرف.
ثانيا: الضرب بالدف جائز، أو مشروع في العرس ونحوه كالختان وقدوم الغائب وهذا لا يعارض الأدلة العامة في تحريم المعازف حتى يزعم أنه دليل على إباحتها، فالاستدلال بالترخيص في الضرب بالدف على إباحة المعازف ضرب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض والواجب أن يحمل العام على الخاص فيقال بتحريم المعازف إلا ما استثناه الشرع، قال في الروض: ويسن الدف أي الضرب به إذا كان لا حلق به ولا صنوج فيه أي في النكاح للنساء وكذا ختان وقدوم غائب وولادة وإملاك. انتهى.
ونصوص العلماء في هذا كثيرة.
ثالثا: الزعم بأن تحريم المعازف من المسائل المختلف فيها ومن ثم لا تكون من مسائل الإنكار زعم غير صحيح، فإن الخلاف في هذه المسألة ضعيف جدا ومن ثم لم يلتفت إليه كثير من العلماء فحكوا الإجماع في المسألة، فالقول بإباحة المعازف قول شاذ ليس معروفا عن أحد من الأئمة المتبوعين ولا أكابر أصحابهم، وانظر الفتوى رقم: 130531، وما أحيل عليه فيها.
رابعا: الزعم بأن حديث تحريم المعازف معلق غير متصل زعم فاسد كل الفساد فإن هشام بن عمار هو شيخ البخاري، والبخاري أبعد خلق الله عن التدليس كما قال ابن القيم فلو كان أخذه عنه بواسطة لبين ذلك، قال النووي في مقدمة شرح مسلم نقلا عن ابن الصلاح: وهكذا الأمر في تعليقات البخاري بألفاظ جازمة مثبتة على الصفة التي ذكرناها كمثل ما قال فيه قال فلان، أو روى فلان، أو ذكر فلان، أو نحو ذلك ولم يصب أبو محمد بن حزم الظاهري حيث جعل مثل ذلك انقطاعا قادحا في الصحة واستروح إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد في اباحة الملاهي. انتهى.
وأما ما ذكره من تأويل الحديث على تقديره صحته فمن أفسد الكلام وأبطله، وسماجة هذا التأويل تعلم ببداهة العقل، أفترى الذم والوعيد الشديد بالمسخ قردة وخنازير أتى على استحلالهم ما هو حلال في نفس الأمر؟ وهذا الحديث وإن كان المراد به الإخبار عن شيء يحصل مستقبلا لكنه إخبار بعقوبة عظيمة تنزل بأقوام يستحلون ما هو محرم، معلوم تحريمه، ولا يتصور عاقل يدري ما يقول أن هؤلاء القوم عوقبوا على استحلالهم ما هو حلال لهم وفعلهم ما أذن لهم في فعله، وأين هذا التأويل في كلام شراح الحديث وجهابذة العلماء؟.
خامسا: مما يتعجب منه الزج بمسألة كشف الوجه هنا، والمحاولة الفاسدة لإلزام من قال بتحريم المعازف أن يقول بإباحة كشف الوجه بزعم أن كليهما قول ابن عباس، وهذا من التخليط الذي يدل على قلة بضاعة صاحبه من العلم وعدم درايته بما يقول، فإن قول الصحابي المختلف في حجيته هو الذي لم يظهر له فيه مخالف، وأما ما خولف فيه الصحابي فقوله ليس حجة على غيره، ولذلك قال ابن قدامة في الروضة: قول الصحابي ليس بحجة على صحابي آخر. انتهى.
وليس هذا مقام تحرير هذه المسألة، ولكن هب أن ابن عباس يقول بجواز كشف الوجه فقد خالفه غيره وفسر قوله: إلا ما ظهر منها ـ بخلاف من فسره به كابن مسعود فحينئذ لا يكون قوله حجة، على أن بعض المحققين كشيخ الإسلام رحمه الله قال إن كلام ابن عباس جرى على ما كان عليه الأمر أولا من جواز كشف الوجه وكلام من فسر ما ظهر منها بالثياب محمول على ما بعد النسخ فلا تعارض حينئذ بين أقوال الصحابة، ولبحث هذه المسألة موضع آخر وإنما المقصود بيان خطأ هذا الإلزام الباطل، وأما تفسير لهو الحديث بالغناء فليس قول ابن عباس وحده، بل قال به جماعة من الصحابة والتابعين، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن قولهم في مثل هذا له حكم الرفع فيكون حجة وإن قيل إن قول الصحابي ليس بحجة، وهاك بعض ما ذكره ابن القيم حول هذه الآية في إغاثة اللهفان: قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه وقاله عبدالله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه وهو قول مجاهد وعكرمة، وروى ثور بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ـ قال: هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا، وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبدالله بن الزبير الحميدي وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي: أن النبي قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا نزلت هذه الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ـ وهذا الحديث وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الإلهاني عن القاسم فعبيد الله بن زحر ثقة والقاسم ثقة وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها ـ إن شاء تعالى ـ ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، وصح عن ابن عمر أيضا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبدالله في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي له والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند، قال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع. انتهى.
وبعد فليتنبه العاقل إلى خطورة التكلم في دين الله تعالى بغير علم ولا بصيرة وإلى وجوب رد الأمر إلى أهله العالمين به، فلو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، نسأل الله أن يهدي المسلمين لأرشد أمرهم.
والله أعلم.