الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن القرآن المجيد شفاء ورحمة للمؤمنين، وهذا الشفاء عام يشمل أمراض القلب والنفس، وأمراض البدن والجوارح، والرقية بكتاب الله نافعة بلا شك، خاصة بالمعوذات، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، كما في الصحيحين وغيرهما، وقد سبق لنا تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 111313.
وهذا هو موضوع الكتاب المسئول عنه: الاستشفاء بأثر القرآن المجيد، ولكن مؤلفه انتهج فيه منهجا لا يوافَق عليه كثير من العلماء، حيث يعتمد فيه على ذوقه وتجاربه، مع تعميم ذلك على الناس وكأنه شريعة مأثورة، وقد ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أصناف الناس مع القرآن، فكان الصنف الثالث منهم: من يلامس معاني كلمات الله الظاهرة، وقد انقطعت إمداداته اللدنية فاكتفى بالساحل.
والصنف الرابع: من داوم على تلاوته وفهم معانيه وتدبره حتى سرت آياته في عروقهم فانكشف لهم بعض مكنوناته وأسفرت لهم بعض أسراره.
ثم قال بعد ذلك: وهنا أقترح على كل من يريد الاستفادة بالقرآن أن يبحث عن الحاجة التي يجدها في نفسه أو التي يريدها، أو عن معنى مماثل لها في آيات القرآن، فمثلا: إن أردت الغني فاقرأ: وتحقق بمعنى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [الشورى: 19].
وإن أردت الهدوء وراحة البال فاقرأ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4].
وإن أردت الأمان فاقرأ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
وإن أردت مودة شخص فاقرأ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 7].
وإن أردت نزع العداوة بينك وبين شخص فاقرأ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي { الأعراف: 43}.
وإن أردت الشفاء فاقرأ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ {الشعراء: 80}.
وإن أردت صرف ما تكره فاقرأ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ {الدخان: 12}.
وإن أردت الإصلاح فاقرأ : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {هود: 88}.
وهكذا تتلو الآية بالنية التي في قلبك واتجه إلى الله بالدعاء بتلك الآيات معتقدا اعتقادا لا ليخالطه شك في الإجابة، وابحث في عجائب القرآن, واستخرج من كنوزه ودرره, واستشف به من الأمراض والعلل مؤمنا بإعجاز القرآن العددي البياني والعلمي والتشريعي. إلخ, والمقام هنا مقام تفصيل ذلك, ولكنه باب جديد من أبواب الإعجاز، إنه إعجاز الأثر الذي تلمسه في ذاتك وتجده بين جوانحك ويتحقق بين يديك.
ومضى المؤلف على هذا النحو ثم قال:
إن كثيرا من الناس لا يستطيع أن يهتدي إلى الآية التي تناسبه في كتاب الله فتراه يسأل ويبحث عمن يدله على بغيته, فاستعنت بالله لأقوم بهذه المهمة الصعبة, مستعينا بمن سبقني من العلماء الذين تكلموا في خواص القرآن أذكر منهم كتاب خواص القرآن للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي, كما أني اطلعت على ما كتبه الدكتور عمار إبراهيم حسن في كتابه نفحات الشفاء فوجدته نافعا في ما أتى به من فوائد عظيمة, وبين منهجية الاستشفاء بالقرآن, فجعلت ما كتبه الشيخ الفاضل مدخلا لكتاب منة الرحمن في بعض أسرار القرآن، واستعنت بما لدي من تجارب خلال رحلتي مع الاستشفاء بكتاب الله, فعجائب القرآن لا تنقضي, وأسراره لا تنتهي .اهـ.
وهذا المنهج في الاستشفاء بالقرآن فيه نظر واضح، فهو يجعل لكل مرض وصفة وآيات تخصها، ويعمم هذا على الأمراض البدنية والنفسية، ويرتبه للناس وكأنه مأخذه من الشريعة، وقد ذكر الدكتور أحمد بن عبد الله آل عبد الكريم في رسالته العلمية: البدع العملية المتعلقة بالقرآن ـ تخصيص رقى ليس لها أصل شرعي، وقال: والذي ينكر في هذا الباب: زعم بعض الرقاة أن لبعض الآيات خصائص لبعض الأمراض، وهذه الرقى ليس فيها محذور من حيث لفظها، لكونها آيات من القرآن، أو تعويذات شرعية سالمة من الشرك، إلا أن المحذور فيها هو تخصيصها وانتقاؤها لهذه الأمراض، أو حصر الرقية بالآيات الشرعية فيها، والحاصل أن ما خُصَّ من الرقى مما ليس له أصل لا تصح نسبة تخصيصه إلى الشريعة، وإن صحت الرقية به لسلامته من الشرك، وقد أدى هذا التخصيص لجمع بعض الآيات في أوراق وتداولها باسم الرقية الشرعية، وإذا ثبت لبعض الرقاة في بعض الآيات أثر، فإنه لا يصح جعل هذا الأثر من فضائل السورة، أو من خصائص الآية، ولا يحق له أن يجعله شرعا لغيره ما لم يرد لتخصيصه دليل، إذ أن التأثير بآية من آي القرآن قد يكون له أسباب أخرى كيقين الراقي والمرقي بشفاء القرآن، أو قبول المحل المرقي للقراءة. اهـ.
وذكر من ذلك أيضا: اعتقاد مشروعية الرقية بتجربتها ـ وقال: أخذ بعض أهل العلم ببعض المجربات فقالوا بها منهم المنذري وابن عطية والقرطبي وابن تيمية وابن القيم وابن الجزري والسيوطي وابن عقيلة المكي، وذكره الشوكاني عن الحاكم والبيهقي والواحدي، والمجرب قد يكون له أصل ضعيف، أو موضوع، وقد لا يكون له أصل في الدين، ودليل القائلين بالتجربة عموم ما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعل ـ قال ابن حجر: وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها ـ والتحقيق أن إثبات مشروعية العمل بالتجارب لا يجوز ولا يسوغ شرعا لما يلي:
أولا: أن استحباب العمل، أو اتخاذه دينا لا يثبت إلا بنصوص الكتاب والسنة، قال الشوكاني: لا يقول قائل أن ما وقع مجربا يثبت عن الشارع، أو عن أهل الشرع، وقال: السنة لا تثبت بمجرد التجربة, ولا يخرج بها الفاعل للشيء معتقدا أنه سنة عن كونه مبتدعا.
وأما حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ـ فلا دليل فيه لجواز المجربة، إنما ينفعه بالأسباب المشروعة كالرقية الشرعية الخالية من الشرك والبدع.
ثانيا: أن القول بالتجربة استدراك على الشارع واعتماد طريقة في الدين ليس لها أثر شرعي وهذا هو شأن البدعة, وقد تقدم أن من آثار القول بالتجربة اعتماد بعض الفضائل لسور القرآن كالفرح حتى الصباح بقراءة سورة يس ليلا ونحو ذلك وربما جدت فضائل لسور القرآن لتجربة معينة وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليفرط في بيان فضل كتاب الله وآثاره: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ {المائدة : 67}.
وقد بلغ عليه الصلاة والسلام البلاغ المبين بشهادة الله في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا {المائدة : 3}.
ثالثا: في القول بأعمال التجارب ونتائجها هجر للمشروع من العمل، فمن يلجأ في باب الرقى للمجربات وهيئاتها وطرقها يترك الرقية الشرعية وهيئاتها لا سيما وأن النفس البشرية تتبع أيسر الطرق للعلاج والمريض المحتاج قد يصدق - مع قلة الإيمان - كل ما يسمع من أبواب العلاج, وما لجأ من المسلمين إلى السحرة والمشعوذين إلا بسبب هذا.
رابعا: في القول بنتائج التجربة في الرقية ذريعة للتشكيك في النصوص التي جاءت في الرقية وكونها شفاء فقد يرقى المريض رقية شرعية ولحكمة يقدرها الله ويعلمها لا يبرأ من مرضه فيتعلق بالتعاويذ المجربة بهيئاتها المخصوصة حتى إذا شاء الله رفع ضره اطمأن قلبه للمجربات دون المشروع, فكانت التجربة هي برهان الرقية والمثبتة له, وفي ذلك تعلق بغير المشروع.
خامسا: القول ببرهان التجربة ذريعة للبدع والشركيات, فأرباب المبتدعة من أهل التوسل بالقبور وعباد الأضرحة والجمادات يعتقدون في شركياتهم أنها تجلب نفعا، أو تدفع ضرا، أو يعتقدون أن العبادة والدعاء عند أضرحتهم أرجى في القبول, وحجة بعضهم: أنا جربنا الدعاء عند هذا الضريح فوجدناه يستجاب, فاستمروا في صرف هذه العبادة في هذا المكان ببرهان التجربة, وهذا العمل صارف عن المشروع وموجوب للوقوع في المحذور, قال شيخ الإسلام: وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام، فبدأ الشيطان بهم في تعظيم مكان الضريح وصرف العبادة لله, حتى إذا تمكن منهم صرفهم لعبادة غير الله.
سادسا: القول بالتجارب يفضي إلى نسبة ما لا يعقل معناه من التداوي إلى الشريعة, والشرع لا يحتمل باطلا بوجه من الوجوه, فليس من الدين وضع ثلاث لفائف في الفم يكتب فيها البسملة، أو التسمية ثم يبتلعها بالماء ليصرف داء الحمى, ولم يرد في الشرع كتابة القرآن على الوجه، أو اليدين، أو الرجلين لطلب الشفاء، ولم يرد لداء الثآليل تعيين ثلاثة أعواد من تبن الشعير يكون في طرف كل عود عقدة تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ آيه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ {طه:105} ـ مرة ثم تدفن الأعواد في مكان ندي إلخ, ولا يخفى ما في هذا التداوي الموضوع من تعريض الآيات القرآنية للامتهان.
سابعا: إن تحقق المطلوب لأحد العلماء، أو الصالحين بآيات معينة، أو رقية محددة لا يجوز جعله دليلا لاستحسان عمله, فقد يقع مطلوبه لما قام في قلبه من صدق التوجه وحسن الرغبة حتى وإن كان عملا لم يشرع كما يحصل ممن يدعو عند القبر فيستجاب له فإن الداعي قد يكون مضطرا ضرورة لو دعى بها مشرك عند وثن لاستجيب له كما ذكر شيخ الإسلام, إلا أن بعض المسلمين يحفظ بعض الأوراد والرقى التي كان يتعوذ بها أحد الصالحين فيحافظ عليها أشد من محافظته على المشروع ويعتقد أنها مشروعة، لأن من جمعها وألفها لم يصبه داء، أو أنه برئ من مرضه، قال شيخ الإسلام: ومن هنا يغلط كثير من الناس, فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة، أو دعوا دعاء ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل, ثم تفعله الأتباع صورة لا صدقا فيضرون به، لأنه ليس مشروعا. وقد أنكر القول بمشروعية التجربة الشوكاني فقال: لا يقول قائل أن ما وقع مجربا يثبت عن الشارع، أو عن أهل الشرع, وقال المعلمي: والمقصود أن الاستناد إلى إلى التجربة لا يكفي للدلالة على شرعيتها ولا بد أن يكون هناك دليل يؤيد الشريعة وإلا فلا.
ولما تقدم , فإن باب الرقية باب شرعي يلزم فيه الاتباع والامتثال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {الحشر:7}.
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {الأنعام: 153}.
وأما نسبة القول بالتجربة لبعض العلماء فهو دليل قاطع على أن الكمال لله ولشرعه, وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتعظيم الدين وحرماته أحب وأكمل من تعظيم الأشخاص والأقوال.
والله أعلم.