الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ذكرنا في الفتوى التي ذكرها السائل الكريم بعض القواعد في باب معرفة صفات الله تعالى، منها: "ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة".
وهذا واضح في بيان الفرق بين التفويض المقبول وهو تفويض الكيفية، والتفويض المردود وهو تفويض المعاني، فعلى الأول يحمل التفويض المنسوب لأئمة السلف، وأما الخلف فإنهم يفوضون على الوجه الثاني. وقد سبق لنا بيان ذلك بما يجيب عن استفسار السائل الكريم، في الفتوى رقم: 55619.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمنتسبون إلى السنة من الحنابلة وغيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه مثل قول أحمد في رواية حنبل: "ولا كيف ولا معنى" ظنوا أن مراده أنا لا نعرف معناها. وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع، وقد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ونحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله، وصنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. فأنكر عليهم تأويل القرآن على غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهم إذا تأولوه يقولون: معنى هذه الآية كذا. والمكيفون يثبتون كيفية، يقولون: إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صفات الرب. فنفى أحمد قول هؤلاء وقول هؤلاء، قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية، وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون: معناه كذا وكذا . اهـ.
وقال في الفتوى الحموية: عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فقولهم رضي الله عنهم: "أمروها كما جاءت" رد على المعطلة، وقولهم: "بلا كيف" رد على الممثلة. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما .. اهـ.
ثم ذكر شيخ الإسلام الآثار عن الإمام مالك وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن من قولهم: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول". ثم قال: ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول. ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضا: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضا: فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف. فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف. وأيضا: فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد؛ أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة. وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول. اهـ.
وقال الشيخ محمد خليل هراس في شرح الواسطية: قد يعبِّرون ـ يعني السلف ـ عن ذلك بقولهم: " تُمَرُّ كَما جاءت بلا تأويل" ومَن لم يفهم كلامهم ظنَّ أنّ غرضهم بهذه العبارة هو قراءة اللفظ دون التعرُّض للمعنى، وهو باطل، فإن المراد بالتأويل المنفي هنا هو حقيقة المعنى وكنهه وكيفيته. اهـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 134998، 120021، 50216.
والله أعلم.