الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن مقولة: (يا عباد الله الصالحين أرجعوا إلي كذا الضائع) استغاثة وهي نوع من الدعاء، وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن دعاء غير الله في ما لا يقدر عليه إلا الله نوع من الشرك الأكبر ـ والعياذ بالله ـ وراجع في ذلك الفتوى رقم: 3779.
وقال العلامة المعلمي في (الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد): يجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب أو بحي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر، وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو لشجر أو لحجر أو لنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء حي أو ميت. اهـ.
وفي حاشية ابن القاسم على الأصول الثلاثة، عند قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً {الجن: 18} قال: { أَحَداً} نكرة في سياق النهي شملت جميع ما يدعى من دون الله، سواء كان المدعو من دون الله صنماً أو ولياً أو شجرةً أو قبراً أو جنياً، أو غير ذلك، فإن دعاء غير الله هو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة منه. اهـ.
ومعلوم أن التوبة من ذلك لا تتحقق بمجرد النطق بكلمة التوحيد في حق من لا يعلم معناها ولوازمها، بل لابد من اعتقاد بطلان دعاء غير الله وحرمته وأنه نوع من الشرك.
قال الحافظ ابن رجب في (كلمة الإخلاص): التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد. اهـ.
وكذلك التوبة من الأقوال الشركية لا تصح إلا بمعرفة بطلانها وتحقيق ما يضادها ولو إجمالا. ولذلك لما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) لم يكتف بأمرهم بالنطق بكلمة التوحيد، بل بين لهم بطلان ما قالوه ونفرهم منه ليعتقدوا خلافه، فقال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ *إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * {الأعراف:138،140}.
والمقصود أن ننبه السائل الكريم على ضرورة أن يبين لوالدته حرمة دعاء غير الله وأن ذلك نوع من الشرك الأكبر، حتى تنكر ذلك بقلبها وتندم عليه، فيكون ذلك من جملة توبتها مع النطق بالشهادتين، وراجع الفتوى رقم: 36141.
وأما السؤال عن أعمال الوالدة التي عملتها بعد دعائها بما دعت به، وقبل توبتها من ذلك، فلا نستحسن الخوض فيه؛ فإن ذلك فرع للحكم بردتها أو بقاء إسلامها، ومثل هذا الحكم في حق المعيَّن ليس بالهين، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 31789.
ولكن على وجه العموم فمن حكم بردته أو وقوعه في الشرك الأكبر فقد حبط عمله حتى يرجع إلى دينه ويتوب، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {الزمر: 65}
وقال سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأنعام: 88} وقال عز وجل: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ {المائدة: 5} فإن تاب توبة صحيحة فأعماله السابقة محل خلاف بين أهل العلم سبق لنا تفصيله في الفتوى رقم: 37185.
وكل ما سبق إنما يَرِدُ إذا كانت والدة السائل تعني بمقولتها الاستغاثة أو الاستعانة بالموتى أو الغائبين ونحو ذلك من البشر. وأما إن كانت تعني بذلك الملائكة أو صالحي الجن ممن يَحضُرون ولا يُرَون، فهذا يدخل في الاستعانة أو الاستغاثة بالمخلوق في ما يقدر عليه، وليس هذا من الشرك، وراجع في بيان الفرق بين نوعي الاستعانة والاستغاثة الفتويين: 25984، 71750. وقد روي في ذلك بعض الأحاديث والآثار سبق لنا ذكرها وبيان حالها وتوجيهها في الفتوى رقم: 7775.