الإجابــة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فها أنت تعيش في دوّامة فكريّة تكتنفها مشاعر الحيرة والاضطراب، والواقع أن ما تمرّ به ما هو إلا مرحلة من مراحل الصراع بين ابن آدم وبين قرينه، والمطلوب فيها مجاهدة هذه الأفكار ومنابذتها، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه، فهذا عظيم الجهاد، والحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة كما صحّ بذلك الحديث.
أخي الكريم: إن كل ما عندك من الشبه هي شبهات هيّن دفعها؛ لأن الفرق بين الحقائق والحجج وبين الشبهات والوساوس فرقٌ شاسع يعلمه المرء عقلاً وحسّاً وفطرة، ولكن ما يجعلها شديدة عليك هو استسلامك للوساوس وانجرافك معها، فهنا تكون الإشكالية مرضية نفسية.
وقد شبه أحد أهل العلم الوساوس التي تعرض للمؤمن الموحد بالناظر إلى نفسه في المرآة القذرة، فإن قذارة المرآة لا تصيبه في بدنه ولا تشوه صورته الحقيقة، وإنما هي تشوهات خارجة عنه، فكذلك إيمانك لا تضره قذارة الوساوس، لأنها لا تؤثر على حقيقة إيمانك ولا على صورته الجميلة، وإنما تراها من بعيد دون أن يلحقك منها أذى ولا نجاسة.
ومثله المؤمن الذي يرى الأفعى من وراء زجاج سميك متين، فمهما حاولت الأفعى أن تلدغه أو تؤذيه لم تستطع ذلك، فوساوس الشيطان كتلك الأفعى، مهما كثرت ووردت على قلبك فإنها لا تستطيع أن تدخله لأن يقين الإيمان يصدها ويسخر من ضعفها وعجزها.
ولهذا أخي عليك أن تعلم أن اليقين لا يزول بالشك، وأن الحقائق لا تزول بالوساوس، وأن تدرك أن مجرد علمك بأن الشبهة ما هي إلا شبهة، لهو برهان ساطع على بطلانها، فتيقن من هذا جيدا، وكل وسوسة واردة على هذا اليقين لا قيمة لها، ثم احرص على معرفة حقائق الدين معرفة صحيحة قبل الوقوع ضحية لوسواس تلك الشبهة الساقطة.
ومن الحكمة أن تنظر إلى الحجم الحقيقي لهذه الأفكار وتُدرك مدى ضآلتها وحقارتها، فلا تسمح (لذبابة) الأفكار أن تدور حولك، وتقترب من أذنيك، ليهولك طنينها العالي، ولم تدر أن علوّ صوتها لم يكن سببه عظمةً أو ضخامةً، بل سببه الوحيد هو اقترابها من أذن المستمع إليها، إنها ذبابة حقيرة، تكفيها صفعة قويّة لطرحها أرضاً، وإن العقل كأسٌ إن لم تملأه بنفسك، ملأه غيرك، واللبيب بالإشارة يفهم.
ومن غير المعقول أن يكون حالك كلما ورد عليك شك سقط بسببه جبال من الحقائق والمعارف لأدنى ضربة! وإن أدلة الحق لا غبار عليها، وإنما الغبار على الأفهام التي ترفض التفكير بطريقة سليمة.
أخي الكريم: لقد صدّرتَ رسالتك بمجموعة من الأسئلة العبثيّة التي لا طائل منها، ما معنى أين كنّا من قبل؟ بالطبع لم نكن شيئاً مذكوراً، كنّا عدماً فكيف تريد من العدم ومن (اللاشيء) أن يتّصف بالوعي والإدراك؟
ونأتي إلى سؤالك عن أزليّة العذاب فنقول: إن أصل المشكلة لديك هو أنك تريد الوصول إلى إدراك الحكمة في كل أفعال الله تعالى، وهذا غير ممكن بضرورة العقل، وإذا كان العاقل مهما بلغ من ذكاء وعبقريّة لا يستطيع إدراك الحكمة وراء كلّ الأمور، فكذلك الأمر في إدراك الحكمة من وراء أفعال الله جميعها، وإن عدم إدراك الحكمة وراء فعلٍ إلهيّ لا يلزم منه عدم وجود الحكمة فيه، ويحار الإنسان في كثير من أمره حين يحاول أن يحيط بجميع حكمة الله تعالى في أحد مخلوقاته فضلا عن جميع حكمته في جميع مخلوقاته، وهي حيرة سببها عجز الإنسان عن الإحاطة بكمال الله تعالى الثابت له، مع شهوده حكمة الله تعالى في كثير من مخلوقاته وآياته، لتكون حجة عليه في إثبات الحكمة، والتسليم لله بما لم يحط به لعجزه.
ومن مسالك العقلاء أن يقيسوا ما جهلوه على ما علموه، ولذلك قال الأول: "العجب منّا معاشر البشر: نفقد حكمته سبحانه فيما ساءنا وضرنا، وقد آمنا بحكمته فيما نفعنا وسرّنا، أفلا قسنا ما غاب عنا على ما حضر؟ وما جهلنا على ما علمنا؟ أم أن الإنسان كان ظلوماً جهولاً؟!".
فإذا كنتَ تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى موصوفٌ بتمام العلم والإحاطة بالحال والمآل والغيب والشهادة وما لم يكن لو كان كيف يكون، وموصوفٌ بتمام الحكمة في تقدير العقوبة بما يوافق الذنب ويليق به بلا زيادة أو نقصان، فهل تدّعي أنك أعلم من الله بما هو أعدل في تشريع عقوبة توعد بها قوما هو خالقهم، على فعل بعينه قد نهاهم عنه؟ فإن قلتَ نعم، فقد أتيت بما يُناقض صريح العقل والحس والمشاهدة، وإن قلتَ لا: فقد انتهى المقصود من السؤال.
ومع ذلك نزيد الأمر بياناً فنقول: إن المعترض على هذه القضيّة لا يخلو أن يكون أحد رجلين: إما مسلم وإما ملحد، فإن كان مسلماً فلم يخالِف ؟! وإن كان ملحداً فلم يخاف ؟! فالمسلم جديرٌ بأن يلزم الطاعة وألا يُخالف معبوده سبحانه وتعالى، وأما الملحد فلِمَ يخاف من أزليّة العذاب إذا كان لا يؤمن أصلاً بوجود الله فضلاً عن وجود الجنّة والنار؟.
ويُقال أيضاً: لقد تولى الله تعالى الجواب عن هذه المسألة في محكم تنزيله ، وهو الذي يعلم المعدوم لو وُجد كيف يكون ، وقد علم في سابق علمه أن الخُبث قد تأصل في نفوس هؤلاء الخبثاء بحيث إنهم لو عُذبوا القدْر من الزمن الذي عصوا الله فيه ثم عادوا إلى الدنيا لعادوا لما يستوجبون به العذاب ، ولذلك قال تعالى في سورة الأنعام {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام:27-28]، وها أنت ترى كيف آل الأمر إلى تمام علم الله سبحانه وتعالى.
ونضيف قائلين: خلود أهل النار هو عدلٌ محض، لأن العقوبة ملائمة للذنب، فلا ذنب في الوجود أعظم من الكفر بالله تعالى فعظم لذلك عذابهم، ولا أعظم من ذنب الشرك والكفر لأنه تعدٍّ على حق الله تعالى ولذلك لا يغفره ، ويوجب لصاحبه النار، ثم إن الكفر الحاصل من الجاحدين لله غير مخصوص بزمن دون زمن حتى يقال إن دوامه ظلم، بل كفرهم ملازم لهم حتى لو أعيدوا إلى الأرض لعادوا إلى الكفر، والله أعلم بخلقه، فلازمهم العذاب لملازمتهم الكفر بالله تعالى.
أما السؤال: أين رحمة الله في ذلك، فالحكمة وضع الشيء في موضعه الصحيح، فلا توضع الرحمة إلا في موضعها. والرحمة لا يُسأل عنها في مقام إنفاذ عقوبة مستحقة على قوم يلزمنا أن نشهد بأن الله ما أوجب لهم تلك العقوبة إلا وقد سبق في علمه أنهم لا يستحقون الخروج منها ولا يستحقون الرحمة، وعليه فإنك ترى أن الجواب يؤول في الرحمة - كما في العدل - إلى مسألة العلم والحكمة، والله أعلم وأحكم.
وبخصوص السؤال عن تقدير الله على أفرادٍ من الحيوانات أن تتعذّب على أيدي الناس، وأن ذلك يُنافي العدل حسب قولك، فنقول: في أيّ شيء تُجادل يا أخي الكريم؟ ومن ذا الذي يقيس صفات الرب تبارك وتعالى على صفات المخلوقين؟ إن الرب العزيز العليم سبحانه أمر الخلائق جميعا بيده، سبحانه قد أحاط بكل شيء علما وهو العليم الحكيم، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، يرحم هذا بإصابة ذاك، يرفع هذا بحطّ ذاك، يدفع الناس بعضهم ببعض رحمة بهم (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) الآية، ولا يظلم ربك أحدا!
ومن ذا الذي يجرؤ على أن يدعي أن الله إن لم يكن إنزاله ذلك البلاء بتلك البهيمة لشيء فإنه يظلمها بذلك؟؟ أو يدري صاحب هذا الزعم ما في نعمة البصر وحدها من فضل ورحمة؟؟ أولا يعلم أن الله لو شاء لما خلقها في الدنيا ولما جعلها شيئا ؟؟ ومن ذا الذي يملك - أصلا - أن يحاجج رب العزة جل وعلا يوم البعث والحساب فيما أنزله به من نوائب وآلام وأمراض ونحوها مهما عظمت، يقول له في الآخرة لقد ظلمتها بهذه وجفوتها بتلك؟؟؟
وهل كانت صحتها من كسبها أصلا حتى يكون سلبها إياها في الدنيا ظلما لها؟ وهل كان الرزق الذي يهبه الله لها حقا مكفولا لها حتى يعترض معترضُ على تضييق الله على تلك البهيمة فيه إن اختار ذلك سبحانه؟ هل كان شيء مما أنعم الله عليها به – أيا كان – ليأتي إليها باختيارها لولا أن قضاه الله له؟
إنها العقلية نفسها، تلك العقلية التي بلغ بها البغي والظلم والجهالة أن تحكم على تصرفات الله في خلقه وتشريعه وكأنه مخلوق منهم، لا يعلم إلا من جنس ما يعلمون، ولا يظهر له من الأمور إلا ما يظهر لهم وما يتصورون!!
لا الخوف ولا الألم ولا الجوع ولا المرض، ولا الحرق ولا الغرق ولا شيء من ذلك مهما عظم، يزن شيئا في ميزان نعمة الرب السابغة على سائر خلقه، حتى يكون لمخلوق من المخلوقات اعتراض على شيء من ذلك!! وأعيذك بالله من أن تكون ممن خلقهم الله ليعبدوه ويشكروه على سابغ نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فبدلا من أن تخضع أعناقهم لله جل وعلا، راحوا يقولون لماذا قضى علي كذا وكذا، وحرمني مما أعطى فلانا، وأصابني بما عافى منه فلانا، كيف يكون رحيما وعادلاً وقد كان منه كذا وكذا؟؟ وفي محكم التنزيل: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} (الحج:11).
وتساؤلك وخوفك على مصائر الناس انشغالٌ عن خاصّة نفسك، وما ينبغي أن تعلمه أن ربّك سبحانه لا يظلم أحداً، فإذا كان الإنسان عاجزا عن معرفة الدين الحق دون إهمال منه ولا إعراض ، فإن الله عز وجل بحكمته وقدرته يختبره يوم القيامة، فيتحقق فيه علم الله أن لو كان قد أتاه الرسول في الدنيا هل كان سيؤمن أم يكفر ، فيظهر ما سيكون منه لو كان ذلك في الدنيا. ورد بذلك الآثار الصحيحة ، وهو موافق لعدل الله وحكمته.
وكل إنسان قد هداه الله بعقله وفطرته وبسمعه وبصره إلى الحق ، ثم جعل تمام الحجة بالوحي ، فمن أعرض بعد ذلك باختياره استحق على إعراضه جزاء المعرضين ، ومن لم يبلغه الدين ، سبق الكلام عليه.
وبخصوص سؤالك إن كان الإنسان مسيّراً أم مخيّراً، فلن نقول لك: إنه مسيّر، ولن نقول لك كذلك: إنه مخيّر، بل سنجيبك بما تعلمناه من مشكاة النبوة: إنه ميسّرٌ لما خُلق له، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ثم قرأ قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } الليل (5-10).
ولمزيد من البيان نقول: إن من كمال قدرة الله تعالى أن جعل للعبد القدرة على فعل الخير أو الشر، فالتخيير حاصل لهم في الدنيا بين الطاعة والمعصية وذلك (بالإرادة) و(القدرة) التي خلقها الله تعالى في عباده، إرادةٌ تتيح له الاختيار بين الخير والشرّ، والفعل والترك، وقدرةٌ على تنفيذ ما أراده واختاره.
والله سبحانه وتعالى قد خلق الكافر مختاراً مريداً قادراً، مهديّاً النجدين، وبعد أن استبان له طريق الحقّ اختار طريق النار جحوداً للحق وعناداً، فكان عذاب الكافرين واقعٌ على مقتضى العدل، فإن الله أمدهم بكل ما يمكنهم من فعل الخير واجتناب الشر، لكنهم اختاروا الشر على الخير مع علمهم بهما وبجزائهما، فكان لابد من إيقاع اللوم على ظلم العبد لنفسه كما قال سبحانه وتعالى: { وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (الروم:9).
وعن سؤالك: (لماذا خلق الله أناساً وجعل منهم مؤمنين وآخرين كافرين) فنقول: بين المؤمن والكافر أمور يشتركون فيها ويتساوون، وأخرى يفترقون فيها، أما موضع الاشتراك والتساوي فهو في القدرة والإرادة التي جعلهما الله فيهما، ويتمكّنون من خلالها أن يختاروا بين الخير والشرّ، والفعل والترك، وما هدى الله الناس جميعاً من الدلالة والإرشاد الذي يستطيعون من خلاله التمييز بين الحق والباطل، وهذه الهداية حاصلة بالحجة الرسالية التي جعلها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهي التي يترتّب عليها الثواب والعقاب، وتحصل الهداية كذلك من حجج أخرى كالعقل والفطرة والآيات الكونية، إلا أن هذه الثلاث لا يترتّب عليها الثواب والعقاب بدون الحجة الرسالية، فالعقل مثلاً يقضي بذمّ الخمر لتأثيره على العقل، لكن العقاب عليه لا يكون إلا بعد وصول الحجة الرسالية.
وهذه الأمور التي حصل فيها الاشتراك والتساوي بين المؤمن وبين الكافر هي من مقتضى عدل الله، بحيث إذا اختار الإنسان طريق الكفر فإنه يُعاقب، لأنهم كانوا مختارين لهذا الطريق.
وأما موضع الافتراق والاختلاف: فهو أن الله عز وجل خصَّ بمقتضى فضله وحكمته من شاء من عباده بقدر زائد على ما هو مشترك بينهم بمقتضى العدل، وهذا القدر الزائد هو فضل الله تعالى، والفضل زيادة على العدل، وليس هو ضدا للعدل ولا نقيضا له حتى يكون ظلما، فإذا تفضل الله على بعض عباده بالتوفيق لطاعته كان ذلك من الله كرم وجود، لا حقا أوجبه عليه أحد من خلقه، فإنه لا يوجب أحد على الله شيئا، وإنما يوجب الله على نفسه ما يشاء تكرما منه وفضلا.
فإذا علمت أن مجرد تفضل الله على من شاء من عباده لا ظلم فيه، فنقول إنَّ هناك أمرا أعظم من ذلك، وهو أن فضل الله تعالى على من شاء من عباده هو من مقتضى حكمته وعلمه وقدرته ومشيئته.
ويتحصّل من ذلك أن الله سبحانه وتعالى يوفق من شاء من عباده للحق والطاعة فضلاً منه ورحمة، ويخذل من شاء من عباده من أهل الكفر والمعاصي فيكلهم إلى أنفسهم، فلا يُوفّقون إلى الخير والصلاح والهدى والرشاد بمقتضى أنفسهم الأمارة بالسوء المعارضة للشرع المخالفة لأمر الله ونهيه الشرعي.
ووقوع ذلك منهم هو باختيارهم وإرادتهم وقدرتهم رغم وجود دواعي الإيمان والهدى وقيام الحجة الرسالية عليهم، فأعرضوا عن دواعي الهدى إلى دواعي الردى والكفر والعصيان، واتبعوا أهوائهم، وفعلوا ما نهاهم الله عنه.
ولذلك يدعو الصالحون فيقولون: يا رب! خلقتنا فنسيناك، ورزقتنا فكفرناك، وابتليتنا لنذكرك فشكوناك، ونسأت لنا في الأجل فلم نبادر إلى العمل، ويسرت لنا سبيل الخير فلم نستكثر منه، وشوّقتنا إلى الجنة فلم نطرق أبوابها، وخوّفتنا من النار فتقحَّمنا دروبها، فإن تعذّبنا بنارك فهذا ما نستحقه وما نحن بمظلومين، وإن تدخلنا جنتك فذاك ما أنت أهله وما كنا له عاملين.
ونعرج إلى تساؤلك عن إيمان الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من عدم وجود ما يُسمّى بالإعجاز العلمي، وكأنّ هذا النوع من الدلائل هو السبيل الوحيد الذي يوصل الناس إلى القناعة بدين الله عز وجل، وهو الأمر الذي يتنافى مع التصوّر الشرعي الصحيح لحقيقة الدين وجوهره، والمسألة أن الدليل في حقيقته هو المرشد إلى المطلوب لأنه علامة عليه، وإذا صحّ لديك دليل واحد على صدق النبي ثبتت لك نبوّته، وإذا ثبتت لك نبوّته ثبت لك صواب ما جاء به من الشرع والكتاب المنزّل، وإن البراهين التي يقدّمها القرآن وتبيّنها السنّة يدركها عوام الناس وعلماؤهم، فأما العامي فيدركها لبساطتها ووضوحها وبداهتها، وأما العالم فيُدركها على وجه التفصيل، ويعلم أن هذه البداهة تعتمد على شواهد كثيرة تؤلّف بمجموعها حكما عقليّاً اضطراريّاً يكون إنكاره بمثابة إنكار القضيّة الرياضيّة الصحيحة.
لو تأمّلنا أدلّة النبوّة وجدناها تنتظم وفق النقاط التالية :
أولاً: المعجزات التي أتى بها، ومن أعظمها بلا شك (القرآن الكريم)، من حيث بلاغته وبيانه وعدم قدرة البشريّة على الإتيان بمثله، فضلاً عن جوانب أخرى ليس المقام مقام التفصيل فيها قد ألّف فيها الكثير من العلماء قديماً وحديثاً، ويدخل فيها الإعجاز العلمي، فضلاً عن وجود معجزات أخرى كثيرة غير القرآن، وهي المعجزات الحسيّة التي جاءنا الخبر الصادق عنها، وبذلك تعلم أن المعجزات هي جزء من كلّ، جزء من دلائل النبوّة، وأن الإعجاز العلمي ما هو إلا جانبٌ فقط من جوانب المعجزات.
ثانياً: بشارات الأنبياء من قبله، وهذا باب مهم جعل الكثيرين من أهل الكتاب يؤمنون بنبوّته عليه الصلاة والسلام، خصوصا ما جاء في إنجيل برنابا وفي الأناجيل الموجودة حاليا بين أيدينا بما فيها من عبارات تبشّر بنبوّته، وليتك تراجع كتاب القس عبد الأحد، والذي كان من أهل الكتاب ثم أسلم وألّف في ذلك.
ثالثاً: حال النبي قبل وبعد النبوّة، وهذا فصل مهم ودليل قوي يغفل الكثيرون عن الاهتمام به،
رابعاً: طبيعة الشريعة التي جاء بها، وبعبارة أخرى : خصائص الشريعة المنزلة، من حيث الكمال والشموليّة وغير ذلك.
ثم إننا نقول: أتتصوّر أن الله سبحانه وتعالى برحمته التي وسعت كلّ شيء، وبحكمته البالغة، وباتصافه بصفة "الهادي" والتي تقتضي إرادة الهداية للخلق، أتتصوّر أنه يرى بشراً يكذب عليه ويفتري، ثم يتركه ليضل الناس بغير علم طيلة ثلاث وعشرين سنة، ومع ذلك يتركه دون أن يبيّن حقيقته، ويجعله عبرةً لمن يعتبر؟، يقول الإمام ابن القيم: (أفلا تراه كيف يخبر سبحانه أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه).
وعن طبيعة التحدّي بالإتيان بمثل هذا القرآن، فحاصله أن الله سبحانه وتعالى ومنذ ألف وأربعمائة سنة تحدّى الثقلين أن يأتوا بمثل هذا القرآن في مبناه وفي معناه، فعجزت البشرية بأكملها طيلة هذه الفترة، خصوصاً الفترة الأولى حينما كانت القدرات اللغويّة في أوج قوّتها، فلم تستطع الإتيان بمثل هذا القرآن، لا: بل لم تستطع أن تأتي بعشر سور من مثله، بل بسورة من مثله، فاستمرار هذا العجز من البشريّة حتى يومنا هذا دلالةٌ على خروج القرآن عن حدود القدرات البشريّة.
يقول الأديب الرافعي: "وإنما الإعجاز شيئان: الأول: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته. الثاني: استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه، فكأن العالم كله في العجز إنسان واحد ليس له غير مدته المحدودة بالغة ما بلغت".
ولهذا الإعجاز بعدٌ آخر تنبغي الإشارة إليه، وهو استحالة صدور القرآن من مثل النبي-صلى الله عليه وسلم-، ذلك لأنّه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن من عداد الشعراء، ولا كان ممن يتبارى مع القوم في أسواق عكاظ ونحوها، ثم هو عليه الصلاة والسلام يأتي بنصّ فريد في سبكه وأسلوبه، يعجز الفصحاء من أهل قريش وغيرها أن يأتوا بمثله، ثم هو هو لا يزال عاجزا عن نظم قصيدة من خمسة أبيات؟؟؟
وليس دليلنا مبنيا على ذلك فحسب، بل لكون قريش كانت حريصة على إبطال نبوّته وإثبات كذبه، وبيان كونه قد تقوّل على الله سبحانه وتعالى، فلو أتوا بمثله لبطل قوله، ولبان للناس عدم صدقه، فلماذا اختاروا الطريق الآخر لمنابذته مع صعوبته وعسره، ألا وهو طريق القتال؟! وكان أيسر عليهم أن يختصروا هذا كلّه بسورة صغيرة تبطل ادّعاءه بتفرّد القرآن، فهذا دليل على العجز، والعجز دلّ على خروج ما أتى به مدّعي النبوّة عن حدود الطاقة البشريّة، الأمر الذي يدلّ على مصدريّة القرآن الكريم من لدن حكيم عليم.
وبعد: فعليك بطلب العلم الشرعي، والإخلاص لله فيه، وعليك بالدراسة على أهل العلم الربانيين، الذين يذكرك قولهم وفعلهم وكلامهم وصمتهم بالله واليوم الآخر، فهؤلاء هم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حقا، لا من قسى قلبه وتهاون في دينه وشغلته الدنيا عن الآخرة، وصار التعليم عملا دنيويا في نفسه لا عبادة وقربة إلى الله تعالى.
وامتنع منذ الآن عن قراءة الشبه، لا لمجرد الامتناع عنها، وإنما لتحصيل الميزان الذي ستزن به فيما بعد تلك الشبه لترد عليها وتنقضها، وهذا الميزان هو علم الكتاب والسنة، وهو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الذي من أخذ منه أخذ بحظ وافر، وهو الحكمة التي بها تنال الفرقان بين الحق والباطل، وكلما زدت تمسكا بالسنة زدت فرقانا ونورا وحكمة.
وفقك الله للعلم النافع والعمل الصالح، وأذهب عن نفسك الضعف أمام الشبه الضعيفة الخادعة، ورزقك إيمان الموقنين بالحق، الذين لا تخدعهم حيل الشياطين ووساوسهم الكاذبة.
والله أعلم.