الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كتب الوالد لكما القطعة حال حياته، ولم يتم حوزها حتى مات، ففي هذه الصورة لا تنفذ الهبة لعدم الحوز فالهبة لا بد لنفاذها من حيازة الموهوب له الشيء الموهوب حيازة تامة قبل موت الواهب، فإذا لم تحصل هذه الحيازة حتى مات الواهب كان الموهوب من ضمن تركة الميت، ففي الموطأ: أن أبا بكر وهب لعائشة ـ رضي الله عنها ـ جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية، فلما مرض مرضه الذي توفي فيه قال لها: كنت قد نحلتك عشرين وسقا ولو كنت قبضتيه، أو حزتيه كان لك، فإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله تعالى.
وفي رسالة ابن أبي زيد القيرواني: ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلا بالحوز.
وأما عن تفضيل الأب بعض بنيه على بعض من غير مسوغ من حاجة، أو عوز فإنه يعتبر من الجور وعدم العدل بينهم، لما ثبت في الصحيحين واللفظ لمسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد لما نحل ابنه النعمان نحلاً وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك، فقال له: يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور. وفي رواية لهما: قال له أيضا: فأرجعه. وفي رواية لمسلم: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرد أبي تلك الصدقة. وفي رواية عند أحمد: إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن رجل له أولاد ذكور وإناث فنحل البنات دون الذكور قبل وفاته، فهل يبقى في ذمته شيء أم لا؟ فقال ـ رحمه الله: الجواب: لا يحل له أن ينحل بعض أولاده دون بعض بل عليه أن يعدل بينهم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ـ وكان رجل قد نحل بعض أولاده وطلب أن يشهده، فقال: إني لا أشهد على جور وأمره برد ذلك، فإن كان ذلك بالكلام ولم يسلم إلى البنات ما أعطاهم حتى مات، أو مرضَ مرض الموت فهذا مردود باتفاق الأئمة ـ وإن كان فيه خلاف شاذ ـ وإن كان قد أقبضهم في الصحة، ففي رده قولان للعلماء. والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله.
ولو أنه حصلت منكما الحيازة للقطعة في حياة الوالد فإنه ينفذ ذلك عند الجمهور مع استحباب ردكما المال للتركة حتى يحصل العدل في العطية، وأوجب بعضهم الرد في كل حال وهو رواية للحنابلة رجحها بعض المحققين، قال ابن قدامة في الشرح الكبير: إذا فاضل بين ولده في العطايا، أو خص بعضهم بعطية ثم مات قبل أن يسترده ثبت ذلك للموهوب له ولزم وليس لبقية الورثة الرجوع، هذا المنصوص عن أحمد في رواية محمد بن الحكم والميموني واختاره الخلال وصاحبه أبو بكر، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم وهو الذي ذكره الخرقي، لأنها عطية لولده فلزمت بالموت كما لو انفرد، ولأنه حق للأب يتعلق بمال الولد فسقط بموته كالأخذ من ماله. انتهى منه باختصار.
وقال في المغني: ولا خلاف أنه يستحب لمن أعطي أن يساوي أخاه في عطيته. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: يجب عليه أن يرد ذلك في حياته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإن مات ولم يرده رد بعد موته على أصح القولين أيضا، طاعة لله ولرسوله، واتباعا للعدل الذي أمر به واقتداء بأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ولا يحل للذي فضل أن يأخذ الفضل، بل عليه أن يقاسم إخوته في جميع المال بالعدل الذي أمر الله به. اهـ
وقال صاحب الشرح الكبير من الحنابلة في معرض الاحتجاج لذلك: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا بقوله لبشير: لا تشهدني على جور ـ والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطي تناوله، والموت لا يغيره عن كونه جورا حراما فيجب رده. اهـ
وقال المرداوي في الإنصاف: فإن خص بعضهم، أو فضله فعليه التسوية، فإن مات قبل ذلك ثبت للمعُطى، وعنه لا يثبت وللباقي الرجوع، اختاره أبو عبد الله بن بطة وابن عقيل والشيخ تقي الدين.
وإن كان ما كتبه الوالد لأحد بنيه حصل في مرض الموت فلا ينفذ إجماعا، لأن الهبة في مرض الموت تأخذ حكم الوصية، والوصية للوارث لا تنفذ إلا إذا أمضاها باقي الورثة وأقروها فتكون عطية منهم لا من الميت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث. رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وزاد: إلا أن يجيز الورثة.
قال ابن قدامة ـ رحمه الله: عطيته في مرض موته لبعض ورثته لا تنفذ، لأن العطايا في مرض الموت بمنزلة الوصية، في أنها تعتبر من الثلث إذا كانت لأجنبي إجماعا، فكذلك لا تنفذ في حق الوارث. اهـ
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم، أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب حكم الوصايا، هذا مذهب المديني، والشافعي، والكوفي. انتهى.
والله أعلم.