الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمبنى هذا الكلام على أصل مهم، وهو التفريق بين محبة الكافر لأجل دينه وما هو عليه من الباطل، وبين محبته لسبب خاص كعلاقة القرابة أو الزواج أو المعاملة، أو لما يقدمه الكافر من علم أو نفع للناس ـ فهذه المحبة لا تحرم، كما أنها لا تتعارض مع البغض لهم في الدين والبراء من كفرهم، كما سبق التنبيه عليه في الفتويين : 128403137620.
ومن أمثلة ذلك ما قصه القرآن علينا من حال نبي الله إبراهيم مع أبيه، وحال نبي الله نوح مع ابنه، ففرق كبير بين المحبة الدينية وبين المحبة الطبيعية التي تمليها الجبلية البشرية والفطرة الإنسانية، وقد سبقت لنا الإشارة إلى الفرق بين الحب في الله والمحبة الجبلية في الفتوى رقم: 36991.
وإذا تقرر هذا، فمحبة الكافر لملته أو لصفة دينية فيه، أمر محرم بالإجماع، بخلاف ما إذا اقتصر هذا الحب على مقتضيات الجبلة والمحبة الطبيعية غير الدينية، كمحبة الوالد لولده، والولد لوالده، ولا إشكال في أن يجتمع في آن واحد في قلب العبد بغض ديني ومحبة جبلية، لاختلاف الباعث في كل منهما، قال ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق في مسألة الولاء والبراء والتكفير والتفسيق وما يتعلق بذلك: وفي هذا فروع مفيدة الأول: أن هذا كله في الحب الذي هو في القلب وخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة كما يأتي، وأما المخالفة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق وإكرام الضيف ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة فلا يبذل للعدو في حال الحرب، وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك، قلت: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله: وصاحبهما في الدنيا معروفا، ومنها قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ـ ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ في قصة حاطب على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عذره بالخوف على أهله في مكة والتقية بما لا يضر في ظنه، فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله: ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ـ فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟ قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: يا أيها الذين آمنوا ـ والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم، لقوله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به الآية ـ ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع ومع إذنه يجوز. اهـ.
وقد تقدم لنا مزيد إيضاح في جوابين على سؤالين سابقين للأخ السائل، في الفتويين: 161247، 160791.
وإذا تقرر ذلك تبيَّن مقصد صاحب المنار بقوله: إن الله عز وجل لم ينه المسلمين عن حب آبائهم المشركين بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله إلخ.
ومراده ببقية كلامه أن المودة المنهي عنها إنها هي المودة لأجل ما هم عليه من المحادة لله ورسوله، فمثل هذه المودة لا تجتمع مع الإيمان، فلا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد محبة الله ورسوله، مع محبة من يحاد الله ورسوله، بحيث يكون الباعث على هذه المحبة هو هذه المحادة، فهذان ضدان لا يجتمعان، بخلاف الجمع بين محبة الله ورسوله والمؤمنين محبة دينية شرعية، وبين محبة أعداء الله ورسوله والمؤمين محبة جبلية بشرية.
والله أعلم.