الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر أهل العلم في نواقض التوحيد أن من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
والمعنى أن عدم تكفير المشركين والشك فيه كفر.
قال القاضي عياض في كتابه الشفاء عند ذكره لما هو كفر بالإجماع: ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو توقف منهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر الإسلام واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهار ما أظهر من خلاف ذلك. انتهى.
وقال في الإقناع وشرحه -وهما من كتب الحنابلة- في باب المرتد: أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر، لأنه مكذب لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.[آل عمران: 85]. انتهى.
والمقصود بهذا أن من لم يكفر الكفار الذين علم عنهم الكفر المعلوم من الدين بالضرورة، كاليهود والنصارى والبوذيين فهو كافر، كما بينا في الفتوى رقم: 12718، وليس المقصود من لم يكفر المسلم المعين الذي وقع في أعمال كفرية بجهل أو شبهة، ولم تقم عليه الحجة فهذا يحرم تكفيره قبل بيان الحجة، ولكن يقال: إن ما قال أو ما فعل يعتبر شركا دون الحكم عليه هو نفسه بالكفر أو الشرك ما لم تتوفر شروط التكفير وتنتفي موانعه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر؛ كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك. انتهى.
وأما المعين ممن لم يسبق له الإسلام فالأصل الحكم بكفره ونتعامل معه في الدنيا على أنه كافر كما هو الحال في مجتمعه، ولكنه إن كان لم يعلم عن الاسلام وإنما قلد مجتمعه الكافر في الكفر ولم يجد من يدعوه الى الله ويقيم عليه الحجة بالابلاغ فنعامله في الدنيا على أنه كافر، وأما في الآخرة فالله أعلم بحاله وبمستوى بلوغ رسالة الله له كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (طريق الهجرتين) بعد كلامه عن الطبقة السابعة عشر من مراتب المكلفين في الدار الآخرة يوم القيامة، وهي طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعا لهم، قال: الله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. وهو مبني على أربعة أُصول:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.
الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادة العلم بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أُخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له...
الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة. اهـ.
وقد سبق لنا بيان ضوابط التكفير وخطر الكلام فيه، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 721، 106396، 98395، 60700 53835.
والله أعلم.