الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه يحتمل أنه كتبهما على أنهما دعاء ثم محاهما عملا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه. رواه مسلم.
وأما ما نقل عن ابن مسعود في أصل المسألة فقد اختلف أهل العلم في ثبوت ذلك عنه وفي توجيهه، فمنهم من أنكر ثبوته ومن هؤلاء ابن حزم والنووي وغيرهما مع أنه -أعني ما روي من عدم قرآنيتهما- عارضه ما هو أصح منه فقد ثبت إقراء ابن مسعود لهاتين السورتين على أنهما قرآن، وقد تناقله عنه جمع من قراء القرآن فالقراءات الكوفية مسندة بالأسانيد المتصلة إلى ابن مسعود وقد تواتر فيها وجود المعوذتين .
قال ابن حزم في المحلى : كل ما روي عن ابن مسعود أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح، وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود ، وفيها أم القرآن والمعوذتان. انتهى.
وقد جنح ابن حجر في الفتح والزرقاني في مناهل العرفان لثبوت ذلك عن ابن مسعود وقال إنه يحتمل التأويل بأنه قال ذلك قبل ثبوت قرآنيتهما عنده، فلما ثبت ذلك عنده وافق جمهور الصحب فيهما وكان يقرئ بهما.
قال الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن: يحتمل أن إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين والفاتحة على فرض صحته كان قبل علمه بذلك، فلما تبين له قرآنيتهما بعد تم التواتر وانعقد الإجماع على قرآنيتهما كان في مقدمة من آمن بأنهما من القرآن. قال بعضهم: يحتمل أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتواترا عنده فتوقف في أمرهما. وإنما لم ينكر ذلك عليه لأنه كان بصدد البحث والنظر والواجب عليه التثبت في هذا الأمر. اهـ.
قال الزرقاني : ولعل هذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس لأن قراءة عاصم عن ابن مسعود ثبت فيها المعوذتان والفاتحة وهي صحيحة ونقلها عن ابن مسعود صحيح، وكذلك إنكار ابن مسعود للمعوذتين جاء من طريق صححه ابن حجر. إذا فليحمل هذا الإنكار على أولى حالات ابن مسعود جمعا بين الروايتين. اهـ
وقال الشوكاني في التحفة: وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يثبت هاتين السورتين في مصحفه كما روى عبد الله بن أحمد في مسنده، والطبراني عن عبد الرحمن بن يزيد يعني النخعي قال: كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول إنهما ليستا من كتاب الله تعالى. ورجال إسناد عبد الله بن أحمد رجال الصحيح، ورجال إسناد الطبراني ثقات. وهكذا أخرج البزار في مسنده أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما وكان عبد الله لا يقرأ بهما. ورجال إسناده ثقات. وهكذا أخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات قال البزار: لم يتابع عبد الله بن مسعود أحد من الصحاب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف. انتهى.
قلت وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهما أنهما خير سورتين قرئتا، وتقدم أمره بالقراءة بهما وهذه خاصية من خواص القرآن، وتقدم أيضا أن من قرأهما فكأنما قرأ جميع ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك الصحابة وجميع أهل الإسلام طبقة بعد طبقة، والصحابي بشر وليس قوله حجة في مثل هذا على فرض عدم مخالفته لما ثبت عن الشارع فكيف وقد خالف ههنا السنة الثابتة والإجماع المعلوم.
وراجع الفتوى رقم : 168669
والله أعلم.