الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك في أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يتعارض هذا مع كون الإنسان قد يضاعف ذنبه ويعظم وزره بسبب صده عن سبيل الله ودعائه الناس إلى الباطل، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ {العنكبوت:13} وهذه الأثقال هي وزر إضلالهم الناس فهذا مما كسبته أيديهم؛ كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. {النحل:25}. وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ {النحل:88}. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عليه من الإثم مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وعنده أيضا: ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيء.
فتبين بهذا وغيره من النصوص أن الداعي إلى المنكر كسماع الغناء أو غيره فإنه يحصل له وزر من عمل بهذا المنكر بسبب دعائه له فهذا وزره الذي اقترفه.
قال العلامة الشنقيطي مبينا إزالة التعارض بين هذا وبين قوله: ولا تزر وازرة وزر أخرى: وَالْجَوَابُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مَا حَمَلُوا إِلَّا أَوْزَارَ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا وِزْرَ الضَّلَالِ وَوِزْرَ الْإِضْلَالِ. فَمَنَّ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، لِأَنَّ تَشْرِيعَهُ لَهَا لِغَيْرِهِ ذَنْبٌ مِنْ ذُنُوبِهِ فَأُخِذَ بِهِ. انتهى.
وبه تعلم أن الأمر جد خطير وأن على المسلم أن يقي نفسه ارتكاب ذنوب لا ينقطع عنه إثمها ويضاعف وزرها عليه كلما ضل بها ضال. ولمزيد البيان راجع الفتوى رقم 170183 فمن وضع أغنية أو غيرها على صفحته بحيث يتمكن غيره من تحميلها من خلاله فهو آثم بذلك وعليه وزر الدلالة على الشر. وسواء كان وضع هذه المادة على صفحته بنفسه أو أخذها من غيره، ما دام سعى إلى نشرها بوضعها على صفحته، لا إن كانت موضوعة على صفحة غيره وتوصل إليها إنسان من خلاله فلا إثم عليه لعدم قصده لنشرها، ولكن ينبغي للمسلم ألا يصاحب إلا أهل الخير والصلاح ممن لا يتعاطون هذه المنكرات.
ثم إن ما ذكرناه هو فيما إذا لم يتب المرء من المعصية التي نشرها بين الناس، ومن توبته أن يسعى في الاتصال بالمواقع التي نشرت فيها تلك الأغاني عن طريقه إن استطاع ذلك ويقنعهم بمحو الأغاني منها، فإن لم يقبلوا أو لم يتمكن من الاتصال بهم فما عليه إلا أن يخلص ويصدق في التوبة، فقد نص أهل العلم على أن من تاب من ذنب، وبقي أثره تقبل توبته، ومثلوا لذلك بمن نشر بدعة ثم تاب منها.
قال صاحب المراقي:
من تاب بعد أن تعاطى السببا * فقد أتى بما عليه وجبــا
وإن بقي فساده كـــمن رجــــع * عن بث بدعة عليها يتبع
والله أعلم.