الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل إعفاء المسلم لحيته، وقد سبق لنا أن بينا في عدة فتاوى حرمة حلق اللحية، للأدلة الصحيحة الصريحة التي جاء فيها الأمر بإعفائها، كما في الفتاوى التالية أرقامها: 120618, 71215, 2135.
وأما التهذيب الذي ذكر السائل فإن أراد به التقصير الذي يحصل به إنهاكها طلبا للجمال فهذا مخالف للأمر الشرعي بإعفائها وتوفيرها . منها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب.
وما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس.
والجمال في وجود اللحية لا في إنهاكها.
يقول ابن القيم رحمه الله: وأما شعر اللحية ففيه منافع منها الزينة، والوقار والهيبة، ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى، ومنها التمييز بين الرجال والنساء. انتهى.
والأولى في مثل هذا هو المحافظة على تكريم وتسريح شعر الرأس واللحية والنظافة والدهن لهما، وهو من الأعمال التي ندب إليها الشرع المطهر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان له شعر فليكرمه. رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: أن اخرج كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه الشيطان. رواه مالك وصحح إسناده الألباني.
قال ابن عبد البر: وفيه الحض على ترجيل شعر الرأس واللحية، وكراهية إهمال ذلك والغفلة عنه حتى يتشعث ويسمج. انتهى.
وقال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الترجيل والتيمن فيه....
قال ابن بطال في شرحه: الترجيل تسريح شعر الرأس واللحية ودهنه، وهو من النظافة وقد ندب الشرع إليها. اهـ
ويجوز عند كثير من أهل العلم تقصيراللحية إذا زادت عن القبضة، ومثل ذلك ما تطاير من اللحية والخدين أو قبح، فقد أجاز بعض أهل العلم إزالته.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: قال مالك: يؤخذ من اللحية ما تطاير وشذ وطال وقبح.
وقال الإمام النووي في المجموع : قال الغزالي في الإحياء: اختلف السلف فيما طال من اللحية، فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة، فعله ابن عمر ثم جماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة وقالوا: يتركها عافية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: وأعفوا اللحى. قال الغزالي: والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها، لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة. هذا كلام الغزالي، والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً، بل يتركها على حالها كيف كانت، للحديث الصحيح: وأعفوا اللحى.. انتهى.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف أخذ ما زاد عن القبضة عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وطاووس والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وقال الحسن: كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها. وقال جابر: لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: ويسن أن يعفي لحيته، وقيل: قدر قبضته. وله أخذ ما زاد عنها وتركه، نص عليه. وقيل: تركه أولى.
وأما إن أراد أن إعفاء لحيته قد ينفر بعض الناس منه نظرا لما شاع في الأذهان مما ينشره الإعلام الفاجر من التخويف من الإسلام وأهله فينبغي النظر في الأمر، فإن كان السائل داعيا إلى الله تعالى ويرى أن مصلحة الدعوة تحتاج لذلك فمصلحة الدعوة والتعليم أعظم من مصلحة إعفاء اللحية، وعند التعارض تقدم المصلحة الأعظم على ما دونها، ولهذا وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية يجيز للمسلم في دار الكفر أو دار الحرب ترك مخالفة الكفار في الهدي الظاهر إذا ترتب على مخالفتهم فوات مصلحة أو ضرر يلحقه فقال في "اقتضاء الصراط المستقيم": ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار الكفر غير دار الحرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة. انتهى.
والله أعلم.