الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يلهمك رشدك، وأن يعيذك من شر نفسك، وأن يوفقك لما يحب ويرضى.
ثم نفتتح الجواب بما ذكرته في سؤالك من علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كانت حياته كلها لله تعالى، ومع ذلك ينام ويجلس مع أصحابه ويتزوج ووو ... وأنك لن تكوني أفضل منه). وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه !! فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية. رواه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه، وبوب عليه: (باب ما يكره من التعمق والتنازع في العمل والغلو). قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): أَشَارَ بِقَوْلِهِ "أَعْلَمهُمْ" إِلَى الْقُوَّة الْعِلْمِيَّة, وَبِقَوْلِهِ "أَشَدّهمْ لَهُ خَشْيَة" إِلَى الْقُوَّة الْعَمَلِيَّة، أَيْ أَنَا أَعْلَمهُمْ بِالْفَضْلِ وَأَوْلَاهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ. اهـ.
وعلى ذلك، فنذر الحياة لله تعالى والدعوة إليه، يتحقق بالتزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: : بعثت بالحنيفية السمحة. رواه أحمد، وصححه الألباني. وهذا هو أحب الدين إلى الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا. رواه البخاري.
قال ابن حجر: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة, فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع. ... وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: "إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة, وخير دينكم اليسرة" وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية, فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع. اهـ.
فشريعتنا ـ بحمد لله تعالى ـ مبنية على رفع الحرج، كما قال ربنا تبارك وتعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج/78]. وقال سبحانه:مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة/6]. وقال عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة/185]. ولا شك أن الوسوسة التي تحمل صاحبها على العنت والحرج مذمومة شرعا وعقلا، وأن العبد إذا فتح على نفسه هذا الباب فإن الشيطان يلبِّس عليه ويصرفه عن أداء حقوق واجبة، ويحمله على تضييع حدود قائمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلك المتنطعون ـ قالها ثلاثا ـ رواه مسلم.
قال النووي: أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم اهـ.
والمقصود أن ننبه الأخت الكريمة على هذا المبدأ الهام، في فهم الشريعة والعمل بها بشكل عام. فالتشدد والتنطع والتكلف يخرج بصاحبه عن مقاصد الشريعة، وينأى به عن الهدي النبوي الكريم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. متفق عليه.
وبخصوص مسألة النذر، فيتضح بما سبق أن السائلة لو بذلت ما في وسعها في الاستقامة على طاعة الله، والدعوة إليه، فقد وفت بنذرها. ولا يتعارض ذلك مع الأمور الطبيعية والإنسانية كالنوم والأكل والتزاور والدراسة والترويح عن النفس بما يحل ويجمل، ولاسيما إن كان ذلك بنية التقوي على الطاعة وإجمام النفس لتستقبل مهامها بجد واجتهاد. وقد قال معاذ رضي الله عنه: أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. متفق عليه.
قال النووي: معناه أني أنام بنية القوة وإجماع النفس للعبادة وتنشيطها للطاعة , فأرجو في ذلك الأجر كما أرجو في قومتي , أي : صلواتي. اهـ.
وقال ابن حجر: حاصله أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم ليكون أنشط عند القيام. وفي الحديث من الفوائد .. أن المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة أو تكميلا لشيء منهما. اهـ.
وبذلك يتضح أن السائلة قد أخطأت بتفويت حظ نفسها من النوم حتى عاد ذلك ضعفا على بدنها وقلة في تركيزها. كما إنها ستخطئ إذا امتنعت عن الزواج وصلة أرحامها وغير ذلك من المقاصد الشرعية. وكذلك الحال بالنسبة لدراسة الماجستير، فإن ذلك إن كان بغرض التمكن من التدريس ليكون ذلك وسيلة للدعوة إلى الله تعالى في الجامعة، فهو غرض نبيل ووسيلة مهمة من وسائل الدعوة. فإن بيئة الجامعة تحتاج بالفعل لمدرسات ذات كفاءة في التعامل مع الطالبات ودعوتهن في هذه السن الحرجة.
والذي ننصح بها السائلة أن تعطي كل ذي حق حقه، كما جاءت السنة النبوية: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. رواه البخاري. فإنها إن فعلت ذلك وفت بنذرها والحمد لله.
وأما مسألة طلب العلم، فهو من أهم مؤهلات الدعوة إلى الله، فلا يمكن أن تكون دعوة إلا بعد علم، وإلا فهل يمكن أن يدعو المرء إلى ما يجهله ؟! ولكن مفهوم العلم هو الذي يحتاج إلى ضبط، فليس من شرط المشاركة في الدعوة أن يكون صاحبها من العلماء الراسخين، أو الخطباء المفوهين، ولكن من تعلم آية من كتاب الله، أو حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حكما من أحكام الشريعة أو أدبا من آدابها، فهو مطالب بأدائه وتبليغه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. و ابن ماجه. وصححه الألباني. وراجعي الفتوى رقم: 104516.
وأما مسألة طرق الدعوة التي يوفى بها النذر، فإن ذلك لا ينحصر في إلقاء الدروس، بل كل ما يقوم به المرء ـ قليلا كان أو كثيرا ـ من تبليغٍ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان لشيء من دينه وشريعته، فهو داخل في الدعوة إلى الله، ولو كان ذلك لطفل صغير، ولو كان ذلك بلسان الحال لا المقال، وراجعي في ذلك وفي بيان وسائل الدعوة وطرقها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 135007، 17709، 18733، 47286، 43622.
وأخيرا ننبه الأخت السائلة على أنها إن قصرت حقيقة ً في الدعوة إلى الله، بترك ما تيسر لها من سبلها، مما لا يتعارض مع بقية الأوامر الشرعية والأحوال الطبيعية، فعليها كفارة يمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. رواه مسلم. وراجعي الفتوى رقم: 132316.
والله أعلم.