الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن أهل العلم من يقيد الحكم بالردة في مثل هذه المسائل بقصد الإهانة، وقد نقل المرداوي والحجاوي والبهوتي والرحيباني عن ابن عقيل في (الفنون) قوله: إن قصد بكتبه ـ يعني القرآن ـ بنجس إهانته فالواجب قتله اهـ. يعني لردته. وجاء في (الروض المربع): ويحرم أيضا كتب القرآن بحيث يهان، وكره مد رجل إليه اهـ. وقال ابن القاسم في حاشيته: إذا لم يقصد إهانته، فإن قصد إهانته حرم، بل يكفر كما يأتي في حكم المرتد اهـ.
وجاء في (مطالب أولي النهى) للرحيباني: (و) حرم (كتبه) - أي: القرآن (بحيث يهان) ، كعلى بساط أو حصير يداس أو يجلس عليه. (ويتجه: قتله) ، أي: قتل كاتب القرآن على محل مبتذل (إن قصد امتهانه بذلك) الكتب، قياسا على كتبه بالنجس أو عليه إذ لا فرق بينهما، ولأن فعله ذلك يدل على استخفافه بالقرآن وعدم مبالاته به، وهو متجه اهـ.
ونقل البجيرمي في حاشيته على الخطيب، وقليوبي في حاشيته على شرح المحلي، كلاهما عن الرملي تقييده غير القرآن بقصد الإهانة، ولفظه: لا بد في غير القرآن من قرينة تدل على الإهانة، وإلا فلا. اهـ. يعني فلا يكفر. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 40592.
ومن أهل العلم من يطلق القول بالكفر في مثل هذه المسائل، ولا يقيد بقصد الإهانة، سئل ابن عليش كما في (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك): ما قولكم في قارئ في مصحف أو لوح انفصل من فمه ريق وأصاب المصحف أو اللوح، فهل تجب المبادرة لغسله أو يعفى عنه لعسر الاحتراز منه؟ وما حكم ترك غسله اختيارا؟ فأجاب: نعم تجب المبادرة لغسله ولا يعفى عنه، وترك غسله اختيارا ردة اهـ.
وسئل أيضا: ما قولكم في وضع المصحف أو اللوح فيه القرآن على عضو أو ثوب نجس ذهبت منه عين النجاسة وبقي فيه حكمها؟ فأجاب: لا يجوز ذلك، وإن قصد ابتداء أو ترك بعد العلم به فهو ردة. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 73022.
وعلى هذا القول فلا إشكال عند السائل، وأما على القول الأول ـ وهو الذي يوافق الفتوى التي ذكرها السائل ـ فإن من يقول به وإن حكم بحرمة الفعل إلا إنه لا يحكم بأنه من المكفرات إلا إذا كان على سبيل الإهانة والاستخفاف، وهذا يخالف فعل المكفر الذي لا يُختلف في كونه كفرا، إن وقع من خائف لم يصل خوفه لدرجة الإكراه. وهذا هو مراد الشيخ الراجحي بالخوف، كمن يُهدَّد بالفصل من عمله إن لم يسجد لصنم، فهذا خائف ولكنه ليس بمكره، فإن فعل ذلك بسبب خوفه كفر. وهذا يتبين من كلام الشيخ الراجحي: من أُكره على التكلم بكلمة الكفر أو على فعل الكفر فإنه يكون معذورا إذا كان الإكراه ملجئا كأن يُكرهه إنسان قادر على إيقاع القتل به فيهدده بالقتل وهو قادر أو يضع السيف على رقبته فإنه يكون معذورا في هذه الحالة إذا فعل الكفر أو تكلم بكلمة الكفر بشرط أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان، أما إذا اطمئن قلبه بالكفر فإنه يكفر حتى مع الإكراه نسأل الله السلامة والعافية. فالذي يفعل الكفر له خمس حالات : 1- إذا فعل الكفر جادا فهذا يكفر . 2- إذا فعل الكفر هازلا فهذا يكفر . 3- إذا فعل الكفر خائفا فهذا يكفر . 4- إذا فعل الكفر مكرها واطمئن قلبه بالكفر فهذا يكفر 5- إذا فعل الكفر مكرها واطمئن قلبه بالإيمان فهذا لا يكفر لقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) [النحل] اهـ.
وعلى ذلك فالكفر الذي يكفر من فعله بسبب الخوف، كالسجود للصنم وسب الله تعالى ونحو ذلك، مما لا إشكال في كونه كفرا، يختلف عن فعل ما ليس بكفر إلا احتمالا، لوقوع الاختلاف والتفصيل فيه.
ثم ننبه على أن الحكم بالكفر ليس بالأمر الهين، وقد سبق لنا بيان ضوابط التكفير وخطر الكلام فيه، وأن من ثبت إسلامه بيقين فلا يزول بالشك، فراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 721، 106396، 53835.
والله أعلم.