الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواب ذلك يعتمد على تصور اتصال العقل بالدماغ وإن كان محله القلب، وأن هناك تفصيلا وفرقا بين الفكر والنظر وبين الإرادة والاختيار، فمبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد سبق لنا تفصيل ذلك وبيان اختلاف أهل العلم فيه، فراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 13977، 28023، 121008.
ومما يزيد الأمر وضوحا قول الشيخ ابن عثيمين في جواب سؤال: هل العقل في الدماغ أو في القلب؟ حيث قال: قال بعض الناس: في القلب. وقال بعض الناس: في الدماغ. وكل منهم له دليل، الذين قالوا: إنه في القلب قالوا: لأن الله تعالى يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. قال: (قلوب يعقلون بها) ثم قال: (تعمى القلوب التي في الصدور) إذن العقل في القلب، والقلب في الصدر فكان العقل في القلب. وقال بعضهم: بل العقل في الدماغ؛ لأن الإنسان إذا اختل دماغه اختل تصرفه. ولأننا نشاهد في الزمن الأخير نشاهد الرجل يزال قلبه ويزرع له قلب جديد ونجد عقله لا يختلف، عقله وتفكيره هو الأول. نجد إنسانا يزرع له قلب شخص مجنون لا يحسن يتصرف، ويبقى هذا الذي زرع فيه القلب عاقلا فكيف يكون العقل في القلب؟ إذًا العقل في الدماغ لأنه إذا اختل الدماغ اختل التصرف، اختل العقل. ولكن بعض أهل العلم قال: إن العقل في القلب ولا يمكن أن نحيد عما قال الله - عز وجل - لأن الله تعالى وهو الخالق وهو أعلم بمخلوقه من غيره كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» فالعقل في القلب، والقلب في الصدر، لكن الدماغ يستقبل ويتصور ثم يرسل هذا التصور إلى القلب لينظر أوامره، ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ ثم ينفذ الدماغ. إذن الدماغ بمنزلة السكرتير ينظم المعاملات ويرتبها ثم يرسلها إلى القلب، إلى المسؤول الذي فوقه. هذا القلب يوقع، يمضي أو يرد، ثم يدفع المعاملة إلى الدماغ، والدماغ يأمر الأعصاب وتتمشى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وهو الموافق للواقع وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله - في كتبه، والإمام أحمد أشار إليه إشارة عامة فقال: محل العقل القلب وله اتصال بالدماغ. لكن التفصيل الأول واضح جدا، الذي يقبل الأشياء ويتصورها ويمحصها هو الدماغ ثم يرسل النتيجة إلى القلب ثم القلب يأمر إما بالتنفيذ وإما بالمنع؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» اهـ.
وقد سئلت اللجنة الدائمة عن التوفيق بين قول الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وبين قوله سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} باعتبار أن الآية الأولى تدل على أن القلوب هي التي تعقل، وأن الآية الثانية خصت أولي الألباب بالذكرى.
فأجابت: لا تنافي بين الآيتين؛ لأن العقل مصدره القلب وله اتصال بالدماغ كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم، والعقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، فإن تعارضا ففي أحدهما خللا. ثم ما كل ما جاء في النصوص يدركه العقل، فالواجب تقديم النقل؛ لأن النقل معصوم، والعقل ناقص وغير معصوم. اهـ.
هذا .. وقد كثرت الأبحاث العلمية عن حقيقة القلب وأثره ووظائفه وعقلانيته، فهو يدرك ويفكر ويشعر ويتبادل المعلومات مع المخ، وهو المسؤول عن عواطف الإنسان ومشاعره، وهذا الموضوع أحد موضوعات الإعجاز العلمي في القرآن.
والله أعلم.