الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنحن أولا نشكر الأخ السائل لغيرته للدين، وتحسره على تفريط المفرطين، وحرصه على صلاة الجماعة، ولكن ينبغي أن لا يجرنا الحرص والغيرة إلى تضليل من لا يستحق التضليل من غير مستند شرعي، أو إلى الخلط بين الخلاف الشاذ والخلاف المعتبر في المسائل الفقهية.
وصلاة الجماعة مما جاء به الشرع وحث عليه ورغب فيه ولا شك، ونحن أفتينا بوجوبها في الكثير من فتاوانا كما في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 36549، 118240، 130898. ولكن مع ذلك لا يصح أن يُضلل من لا يرى وجوبها أصلا، أو يقول إنها فرض كفاية، فإن وجوب صلاة الجماعة أمر ليس متفقا عليه بين العلماء حتى يضلل من يقول بخلافه، إذ منهم من ذهب إلى سنيتها وهم الجمهور, ومنهم من ذهب إلى وجوبها على الكفاية، ومنهم من ذهب إلى وجوبها على الأعيان. وأكثر الموجبين لها لم يوجبوها في المسجد، والخلاف في المسألة قديم معروف عند أهل العلم، ولكلٍ أدلته التي تحتمل رجحان قوله.
قال الإمام النووي في المجموع: (فرع) في مذاهب العلماء في حكم الجماعة في الصلوات الخمس: قد ذكرنا أن مذهبنا الصحيح أنها فرض كفاية، وبه قال طائفة من العلماء. وقال عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر هي فرض على الأعيان ليست بشرط للصحة، وقال داود: هي فرض على الأعيان وشرط في الصحة، وبه قال بعض أصحاب أحمد. وجمهور العلماء على أنها ليست بفرض عين، واختلفوا هل هي فرض كفاية أم سنة. وقال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء إلى أنها سنة مؤكدة لا فرض كفاية. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَاجِبَةٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَلَمْ يُوجِبْهَا مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ .... إلى أن قال: وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ، وَقِيلَ: فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } . وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً وَطَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ }. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ:{ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلَيْنِ: { إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الْجَمَاعَةَ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، تَكُنْ لَكُمَا نَافِلَةً } . وَقَوْلُهُ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ " لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ "، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْجَمَاعَةَ؛ وَعَبَّرَ بِالْمَسْجِدِ عَنْ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهَا، وَمَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا مَعَ الْجَمَاعَةِ .. وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْجَمْعُ مِنْ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ. وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ الْكَمَالَ وَالْفَضِيلَةَ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ. اهـ.
والأدلة التي استدل بها الموجبون أجاب عنها من لا يرى وجوب الجماعة بما ذكرناه في الفتوى: 150043, وانظر الفتوى: 97093، وهي في التوفيق بين الحيث الدال علاى الرخصة للأعمى في التخلف عن الجماعة، وبين حديث آخر فيه عدم الرخصة له.
وبهذا يتبين للسائل أن الذين لم يوجبوها أئمة كبار كمالك والشافعي وغيرهما، وأنهم اعتمدوا على أدلة قوية، وحتى من أوجب الجماعة لم يوجبها في المسجد، فلا يصح أن يقال إن من لم يوجبها في المسجد يحرف الكلم عن مواضعه، أو يضلل المسلمين.
ولا شك أن أداءها في المسجد أعظم أجرا وثوابا عند الله تعالى، وأدعى للمحافظة عليها، وأن تعمد تركها حتى يخرج وقتها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وانظر الفتوى: 130853.
والذي نوصي به أخانا السائل -زاده الله حرصا- هو أن يحث إخوانه على الصلاة جماعة في المسجد، ويرغبهم فيها، ويذكرهم بثوابها من غير تضليل ولا تبديع.
والله تعالى أعلم