الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العبارة صحيحة, ومعناها أن الجهل عارض مؤثر بحيث يعذر به صاحبه, فلا يؤاخذ شرعًا, ويكون له به عذر مقبول إن كان جاهلًا, لكن ذلك في أمر لم يقصر في تعلمه, كأن جهل الحكم وهو حديث عهد بإسلام, أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء فلم يجد من يعلمه.
أما إذا قصر في التعلم فلا يكون جهله عارضًا مؤثرًا في عدم مؤاخذته, بل يؤاخذ بهذا الجهل لتقصيره في دفعه بالتعلم, قال في الفروق: لأن القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل, فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله, وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها, فالعلم والعمل بها واجبان, فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلًا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين, وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل, ومن علم وعمل فقد نجا.
وقال في الفروق أيضًا: الفرق الرابع والتسعون بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرًا فيه, وبين قاعدة ما يكون الجهل عذرًا فيه: اعلم أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة, فعفا عن مرتكبها, وأخذ بجهالات فلم يعف عن مرتكبها, وضابط ما يعفى عنه من الجهالات الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة, وما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشق لم يعف عنه.
وجاء في هامش إدرار الشروق: الفرق الثالث والتسعون بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح, وقاعدة الجهل يقدح, وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه: الجهل والنسيان وإن اشتركا في أن المتصف بواحد منهما غير عالم بما أقدم عليه, إلا أنه يفرق بينهما من جهتين: الجهة الأولى: أن النسيان يهجم على العبد قهرًا؛ بحيث لا تكون له حيلة في دفعه عنه, بخلاف الجهل, فإن له حيلة في دفعه بالتعلم.
الجهة الثانية: أن الأمة قد أجمعت على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة, ودل قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" على أن الناسي معفو عنه, وأما الجهل فليس كذلك؛ لأن من القاعدة التي حكى الغزالي في إحياء علوم الدين والشافعي في رسالته الإجماع عليها: أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه.
والله أعلم.