الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما ما سألت عنه من توبة الكافر والمشرك: فهي أن يعلن كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقر بمقتضاها، جاء في الفقه الإسلامي: وتوبة المشرك أو الكفر تكون بإعلان الإسلام، والإقرار بتوحيد الإله - توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - سواء أقدر عليه الحاكم، أم لم يقدر عليه؛ لأن عدم القدرة ليست مشترطة في توبة الكفار. اهـ.
وأما عن الشق الثاني من سؤالك، فقد أجاب عنه الشيخ ابن عثيمين لما سئل في لقاء الباب المفتوح: ما هو ميزان تكفير المبتدع؟
فأجاب: مسألة التكفير مسألة كبيرة عظيمة، أشد من التحليل والتحريم؛ لأن التحليل والتحريم لا يؤدي إلى استباحة الدم والمال، والتكفير يؤدي إلى استباحة الدم والمال؛ لأنك إذا قلت: هذا كافر، معناه: أنه مرتد، فإما أن يعود إلى الإسلام، وإما أن يقتل ويستباح ماله، فالمسألة كبيرة؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في نفسه، وأن يحفظ لسانه عن قول: فلان كافر، أو فلان مشرك، أو ما أشبه ذلك، والتكفير لا بد فيه من شرطين:
الشرط الأول: أن نتحقق من الكتاب والسنة أن هذا الشيء كفر، فإذا لم نتحقق فلا يجوز أبدًا أن نقول: إنه كفر، لا بد أن نتحقق أنه كفر.
الشرط الثاني: أن نتحقق أن هذا الوصف الذي رتب الشرع عليه الكفر قد اتصف به هذا الرجل بحيث تكون الحجة قد قامت عليه، وفهمها ولكنه أبى واستكبر، وقال كما قال أسلافه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فإذا وجدنا رجلًا مبتدعًا سواءً كان من المقلدين العامة أو ممن فوقهم لكنه ليس مجتهدًا في بدعته داعيًا إليها، فإننا لا نكفره حتى تقوم عليه الحجة، ويُبيّن له الأمر، فإذا بُيَّن له الأمر فحينئذٍ نحكم بما تقتضيه دلالة الكتاب والسنة؛ لكون هذه البدعة مكفرة أو غير مكفرة، فالمسألة خطيرة.
واعلم أنه ربما يكون القول كفرًا أو الفعل كفرًا والقائل أو الفاعل ليس بكافر، ولعله قد بلغكم من قصة الرجل الذي أضل راحلته في أرضٍ فلاة ضاعت منه، وعجز أن يلقاها وعليها طعامه وشرابه، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بزمام الناقة معلق بالشجرة فأخذه، ومن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، هذه الكلمة كفر، لكنه أخطأ من شدة الفرح، فلم يكن عليه شيء، والرجل يُكره على الكفر ولا يكفر، كما قال الله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، إذن هو يكفر، ومع ذلك يرفع عنه حكم الكفر، من أجل الإكراه والخطأ، والرجل العاصي الذي كان قد أهلك نفسه بالمعاصي، قال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذروني في اليم، خاف من قدرة الله عليه أن يعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، ففعل أهله ذلك به أحرقوه وذروه، فجمعه الله عز وجل بقدرته كن فيكون، وسأله: لِمَ فعلت؟ قال: يا رب خوفًا من عقابك، فغفر الله له، مع أن الرجل شك في قدرة الله، والشك في قدرة الله كفر، لكن هذا الرجل لم يشك في قدرة الله تعالى استهانة بالله، لكن خوفًا من الله عز وجل أن يعاقبه، فظن أنه إذا فعل ذلك سوف ينجو، فعلى كل حال أنا أدعوك أنت - أيها السائل! - وأدعو أيضًا غيرك أن يتريثوا في إطلاق كلمة الكفر؛ حتى يتبين من الكتاب والسنة أن هذا كفر، ثم يتبين أن هذا الوصف ينطبق على هذا الرجل بعينه، ثم يحكم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وكما لا يجوز أن نقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بإذن من الله، كذلك لا يجوز أن نقول: هذا كفر، أو ليس بكفر إلا بإذن الله. اهـ.
ولمزيد من الفائدة انظر الفتوى: 161081، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.