الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما ما وصفه السائل بأنه استقر عليه فهو مقبول, وقد سبق لنا تفصيل القول في معنى الظلم المنفي في حق الله تعالى، وبيان معنى حديث: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم. وما يتعلق بذلك من مسألة إيلام الحيوان، وذلك في الفتوى رقم: 175719. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 172571.
ولكن قد عارض السائل ذلك بما ختم به كلامه حيث يقول: (وأما تعذيب الله للمؤمنين في النار يكون ظلمًا باعتبار أن الله وعدهم أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)!!
والحق أن تعذيب بعض عصاة الموحدين في النار ليس من الظلم، بل: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم. كما ثبت في الحديث، وراجع بيان ذلك في الفتوى المحال عليها سابقًا: 175719.
وأما حديث معاذ الذي فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا, وحق العباد على الله إذا فعلوه أن لا يعذبهم. رواه البخاري ومسلم. فهذا حق، ولكنه لا يتعارض مع دخول بعض الموحدين النار بذنوبهم وتقصيرهم في حق الله, وتفريطهم في جنبه تعالى، فإن من فعل ذلك فلم يعبد الله تعالى حق عبادته! وقد تأول بعض أهل العلم حديث معاذ على الخلود في النار، فإن هذا ممتنع في حق الموحدين، قال القاري في مرقاة المفاتيح: أي: عذابا مخلدا، فلا ينافي دخول جماعة النار من عصاة هذه الأمة، كما ثبت به الأحاديث الصحيحة, بل المتواترة. اهـ.
وقد نقل ذلك عنه المباركفوري في مرعاة المفاتيح ثم قال: لا حاجة إلى هذا التأويل؛ فإن عدم التعذيب إنما هو لمن عبده ولم يشرك به شيئًا، والمراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي. مع الإقرار باللسان. والتصديق بالقلب، كما علمت، ومن كان كذلك لا يعذب مطلقًا ويدخل الجنة أولًا معافى، ومن هاهنا ظهر أن الوعد المذكور في الحديث إنما هو بعد ملاحظة جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ومراعاة جميع الفرائض والواجبات الشرعية، ثم الاتكال فيما وراء ذلك من فضائل الأعمال وفواضلها، أي: السنن والنوافل؛ وهذا لأن الإنسان أرغب في دفع المضرة من جلب المنفعة، فإذا علم أن الإقرار والتصديق والعمل بالفرائض والاجتناب عن المعاصي يكفي له في نجاته من العذاب وتخليصه منه ذهب يقنع ويتكاسل عن السنن والمستحبات, ولا يجتهد في تحصيل الدرجات العليا، وهذا أمر كأنه جبل عليه، ولا شك أن الاكتفاء بالفرائض والواجبات والتقاعد عن السنن والنوافل نقيصة وحرمان عن المدارج العالية، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يخبر به لئلا يتكلوا، وليجتهدوا في معالي الأمور، والدليل على أن المراد من الاتكال الآتي في الحديث الاتكال عن السنن والنوافل: ما رواه الترمذي في صفة الجنة عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وصلى الصلاة وحج البيت - لا أدري أذكر الزكاة أم لا - إلا كان حقًّا على الله أن يغفر له، إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها, قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذر الناس يعملون؛ فإن في الجنة مائة درجة، والفردوس أعلا الجنة وأوسطها, قال: فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس" ففيه ذكر الفرائض أيضًا والتحريض على الدرجة العلياء, فظهر أنه لم يرد في الحديث المجمل الاتكال عن الفرائض، كيف وترك الفرائض لا يرجى من عوام المؤمنين، وشأن الصحابة أرفع. اهـ.
وهناك غير ذلك من أوجه الجمع، ذكرها الحافظ في الفتح فقال: يجب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك: ـ أحدها قول الزهري: إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود, واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخرًا عن أكثر نزول الفرائض.
ـ وقيل: لا نسخ، بل هو على عمومه، ولكنه مقيد بشرائط، كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضي عمله، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة: ليس من مفتاح إلا وله أسنان.
ـ وقيل: المراد ترك دخول نار الشرك.
ـ وقيل: ترك تعذيب جميع بدن الموحدين؛ لأن النار لا تحرق مواضع السجود.
ـ وقيل: ليس ذلك لكل من وحد وعبد، بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية. اهـ.
ومن أوجه الجمع أيضا ما قاله ابن علان في دليل الفالحين: إدخال بعض عصاة المؤمنين النار ليس من العذاب؛ لأن العذاب فيما قال بعضهم: الألم مع الإهانة والإذلال، والله تعالى إذا أدخل المؤمن النار فهو لتطهيره حتى يتأهل لمنازل الأخيار. اهـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 137631.
ثم ننبه على أمر مهم، وهو قول الأخ السائل: (أستغيث بكم ثم بالله) والذي نظنه أنه يعني: أستغيث بالله ثم بكم. فإن المسلم لا يقدم على الله تعالى أحدًا في سؤاله والاستعانة به! ثم إن الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا حرج فيه، وليس شركًا، وإنما هي من باب إعانة الخلق بعضهم بعضًا، بخلاف الاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا هو الشرك والعياذ بالله، وراجع في ذلك الفتويين: 25984، 71750.
والله أعلم.