الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأدلة على وجود الله تعالى وربوبيته كثيرة:
منها: 1ـ دليل الفطرة، فإن العباد مفطورون على معرفة الله تعالى، ولهذا قال سبحانه: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً { إبراهيم:10}.
قال شيخ الإسلام: فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. رواه البخاري ومسلم
والفطرة هي الإسلام، ويدل على ذلك رواية مسلم: ما من مولود يولد إلا وهو على الملة.
وله أيضا: إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه.
ويدل عليه أيضا، قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ـ رواه مسلم.
2ـ ومنها: ما يسمى ببرهان التمانع، أو دليل التمانع، وحاصله أنه لو وجد خالقان، واختلفا، فأراد أحدهما إيجاد شيء وأراد الآخر إعدامه، فإما أن يقع مرادهما معا، أو ألا يقع مراد واحد منهما، أو أن يقع مراد أحدهما دون الآخر، فالأول والثاني باطلان، لما في الأول من جمع النقيضين، ولما في الثاني من ارتفاعهما، وكلاهما محال، فالنقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان فلا يكون الشيء موجودا معدوما، في وقت، كما لا يكون لا موجودا ولا معدوما، فبقي الاحتمال الثالث، وهو أن يقع مراد أحدهما فقط، فهذا هو الرب الخالق، والثاني عاجز لا يصلح للربوبية.
3ـ دليل الآيات النفسية والكونية: وقد استدل به موسى ـ عليه السلام ـ في مناقشته لفرعون المنكر للربوبية في الظاهر، قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ* قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ {الشعراء:ـ 23 ـ24}.
وقال أيضا: قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ {الشعراء:28}.
قال شارح الطحاوية: وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد لا إله للخلق غيره ولا رب لهم سواه.
وقال أيضا: ويحكى عن أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فتُرسي بنفسها وتتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا، فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضا عن غير أبي حنيفة.
4ـ المقاييس العقلية: والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، وقد قال الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ { الطور:35}.
وهذا يتضمن برهانا عقليا واضحا مختصرا على إثبات تفرد الله تعالى بالخلق والإيجاد، وتقرير هذا الدليل العقلي كما يلي: أننا نشاهد حدوث السحاب والمطر والشجر والإنسان وغير ذلك، وهذه المحدثات: إما أن تكون وُجدت من عدم، أو أوجدت نفسها، أو أوجدها موجد آخر، والأول باطل، لأن العدم ليس بشيء حتى يوجد غيره، والثاني باطل أيضا، فلو كانت واجبة الوجود بنفسها، لما كانت معدومة أولا، فوجودها بعد العدم دليل على أنها حادثة مخلوقة، وكل إنسان يعلم أنه لا يستطيع خلق نفسه ولا خلق غيره، قال شيخ الإسلام: وهذا من أظهر المعارف الضرورية، فإن الإنسان بعد قوته ووجوده لا يقدر أن يزيد في ذاته عضوا ولا قدرا، فلا يقصر الطويل، ولا يطول القصير، ولا يجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر، وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك. مجموع الفتاوى: 5ـ 358.
والاحتمال الثالث: أنها وجدت بموجد آخر، وهذا إما أن يكون حادثا مثلها، وهذا الحادث أحدثه حادث آخر، إلى ما لا نهاية، وإما أن يكون واجب الوجود بنفسه، فالأول باطل بالضرورة، لأن الحوادث مهما كثرت لا بد لها من محدث أزلي أول، حتى ينقطع هذا التسلسل، فثبت أن الخالق الموجد لهذا الأشياء هو الله تعالى الواجب الوجود بنفسه.
وأما الكلام الذي نقلته إلينا: ففيه حق وباطل، فالله عز وجل ليس حقيقة مطلقة، فإن الإطلاق لا يكون إلا في الذهن، بل الله عز وجل ذات حقيقية متميزة عن الخلق، موصوفة بالصفات العظيمة، مستو على عرشه، وعرشه فوق جميع مخلوقاته، والإيمان بالله تعالى لا يقف عند إثبات وجوده، بل لا بد من توحيده في عبادته، وإثبات أسمائه وصفاته، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، فلذا نرجو من الباحث عن أمور التوحيد أن يتدبر القرآن أولا، ويتأمل ما جاء فيه من الحديث عن الله تعالى وعن نعمه وإكرامه للطائعين، وعن جبروته وانتقامه ممن عصاه، وعن الرسالات والرسل، وعن الغيب، وعن الآخرة والجنة والنار، وبالنظر في ربوبيته، وفي وعده ووعيده يحب العبد ربه ويخشاه ويخضع له وتنسجم عقليته وعاطفته وتوجهه القلبي في التعامل مع الله تعالى، ويعبده عبادة موافقة للشرع.
والله أعلم.