الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذه المقولة ذكرها الأئمة في عقائدهم، كالطحاوي، وأبي الحسن الأشعري وغيرهما، وهي لا تخص ذنبا عن ذنب سواء من الكبائر أو الصغائر، فلا يكفر أهل السنة العاصي بمجرد معصيته ما لم يستحلها.
وقد عقد الإمام البخاري - رحمه الله - بابا في (صحيحه) قطع فيه بأن المعاصي لا يكفر مرتكبها، قال: باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنك امرؤ فيك جاهلية. وقول الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. [النساء:48].
وقال أبو الحسن الأشعري- رحمه الله تعالى- في الابانة: وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه؛ كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر؛ مثل الزنا، والسرقة وما أشبهها، مستحلا لها غير معتقد لتحريمها؛ كان كافرا. اهـ.
وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي - رحمه الله - في اعتقاد أهل الحديث وأهل السنة والجماعة: ويقولون: إن أحدا من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين؛ لو ارتكب ذنبا، أو ذنوبا كثيرة، صغائر، أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله، والإقرار بما التزمه وقبله عن الله؛ فإنه لا يكفر به، ويرجون له المغفرة؛ قال تعالى: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }) .
وقال الإمام ابن بطة العكبري- رحمه الله تعالى- في الابانة: وقد أجمعت العلماء - لا خلاف بينهم - أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية؛ نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.
وقال الصابوني في اعتقاد أئمة السلف: ويعتقد أهل السنة: أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة، صغائر كانت، أو كبائر؛ فإنه لا يكفر بها. وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص؛ فإن أمره إلى الله - عز وجل - إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالما غانما، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب، واكتسبه، ثم استصحبه - إلى يوم القيامة - من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها؛ بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار. اهـ
وقال الإمام البغوي- رحمه الله تعالى- في شرح السنة: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر، إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئا منها؛ فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار؛ كما جاء به الحديث؛ بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- في الواسطية: من أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب، واللسان. وعمل القلب، واللسان، والجوارح. وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي؛ كما قال سبحانه في آية القصاص: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف }. اهـ.
وقال الإمام ابن أبي العز- رحمه الله تعالى- في شرح الطحاوية: إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة؛ لكان مرتدا يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنى، والسرقة، وشرب الخمر. وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين. اهـ
فالذنوب - صغائر أو كبائر - لا يكفر فاعلها إلا أن يستحلها، وكانت مما ما أُجمِع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، كما قدمناه مبسوطا في الفتوى رقم: 171471 .
وأما المكفّرات، كسبِّ الله تعالى، أو الاستهزاء بالدين، أو السجود للصنم، ونحو ذلك، فهذه لا يشترط فيها الاستحلال؛ لأنها مكفرات بذاتها، واشتراط الاستحلال فيها يسوي بينها وبين غير المكفرات.
والله أعلم.