الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الأمر الوارد في الحديث بالخروج من مصر لا يعم، بل هو خاص بأبي ذر- رضي الله عنه- الذي خوطب به. كما سبق بيانه في الفتويين: 13363، 37418.
ويؤكد هذا أنه لا يُعلم عن أحد من الصحابة ولا التابعين الذي سكنوا مصر، أنه خرج منها لهذا السبب، ولا أن أبا ذر دعا الناس للخروج منها عند وقوع ذلك، فكان هذا كالاتفاق على عدم عموم الحديث! وهذا يشبه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بالخروج من المدينة ـ على فضل سكناها ـ إذا بلغ البناء جبل سلع، ولم يأمر غيره بذلك، ولا نقل عن أحد غيره من الصحابة أنه فعل ذلك عند بلوغ البناء سلعا.
ويؤيد هذا لفظ الحديث في إحدى روايتي مسلم: فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فاخرج منها. فبعد أن كان الخطاب عاما، خص أبا ذر بالأمر بالخروج.
قال القاري في (مرقاة المفاتيح): الظاهر المطابق لـ "رأيتم" أن يقال: فاخرجوا، ولعله صلى الله عليه وسلم خص الأمر به؛ شفقة عليه من وقوعه في الفتنة لو أقام بينهم ... وقد وقع هذا في آخر عهد عثمان حين عتبوا عليه ولاية عبد الله بن سعيد بن أبي سرح أخيه من الرضاعة، فهذا من قبيل ما كوشف للنبي صلى الله عليه وسلم من الغيب أنه ستحدث هذه الحادثة في مصر، وسيكون عقيب ذلك فتن وشرور بها، كخروج المصريين على عثمان رضي الله عنه أولا، وقتلهم محمد بن أبي بكر ثانيا وهو وال عليهم من قبل عليٍّ رضي الله عنه ... فجعل ذلك علامة وأمارة لتلك الفتن، وأمر أبا ذر بالخروج منها حيثما رآه، وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر الشراح. اهـ.
وقد جعل ابن الجوزي هذه العبارة محل السؤال إشارة إلى معنى آخر، فقال في (كشف المشكل من حديث الصحيحين): قوله: " فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج " الإشارة إلى كثرة الناس فيها وازدحامهم. اهـ.
والله أعلم.