الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنص كلام ابن مفلح في (الفروع) هو: ويحف شاربه، أو يقص طرفه، وحفه أولى .. وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب، وإعفاء اللحية فرض. وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: ... "من لم يأخذ شاربه فليس منا" ... وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم. اهـ.
فكلامه ـ كان في الأصل عن مسألة حف الشارب الذي هو فرض عند ابن حزم خلافا للمذاهب الأربعة التي لم توجبه! وراجع في ذلك الفتوى رقم: 111851.
وقول ابن مفلح في (الآداب الشرعية): يسن أن يعفي لحيته. وقيل: قدر قبضة، وله أخذ ما زاد عنها وتركه. نص عليه، وقيل: تركه أولى. اهـ.
ليس في حكم حلق اللحية أو إعفائها، وإنما هو في بيان الأفضل في قدر إعفائها، لا أصل الإعفاء، كما هو ظاهر من سياق كلامه. وكذلك كلام أبي الفرج ابن قدامة في (الشرح الكبير) ونصه: ويستحب إعفاء اللحية .. وهل يكره أخذ ما زاد على القبضة؟ فيه وجهان. اهـ.
فهو في بيان حكم تركها على حالها، لا في حكم حلقها بالكلية. وهنا ننبه على الفرق بين حلق اللحية، وبين تقصيرها أو الأخذ منها، حيث اختلف العلماء في معنى إعفاء اللحية، فقال بعضهم: معناه تركها من غير قص ولا قصر حتى تطول. وقال بعضهم: حتى تكون كثيفة تغطي ما تحتها من اللحيين وإن لم تبلغ القبضة. وراجع في ذلك الفتويين: 14055، 71215.
وأما ما نسب للقاضي عياض فقد نقله عنه جماعة، منهم ابن حجر حيث قال في (الفتح): قال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها. كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها؛ قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره. اهـ.
وقول ابن حجر: (كذا قال) ظاهره أنه يتعقب القاضي عياضا، وقد نقل ابن حجر بعد ذلك عن أبي شامة قوله: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها. اهـ.
ولم يتعقبه بشيء. ونقل الشيخ ابن جبرين كلام القاضي عياض ثم قال: ولعله أراد كراهة التحريم. اهـ.
وأما الخد فهو كما في (المعجم الوسيط): جَانب الْوَجْه، وَهُوَ مَا جَاوز مُؤخر الْعين إِلَى مُنْتَهى الشدق. اهـ.
وقال الفيومي في (المصباح المنير): الْخَدُّ هُوَ مِنْ الْمَحْجِرِ إلَى اللَّحْيِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. اهـ.
ومحجر العين ـ بوزن مجلس ـ : ما يبدو من النقاب. كما في (مختار الصحاح).
وقد سبق لنا في كثير من الفتاوى بيان أن شعر الخدين جزء من شعر اللحية، فلا يجوز حلقه؛ وراجع الفتوى رقم: 16277.
وكذلك شعر العارضين، فإن العارض في اللغة هو الخد، وعارضتا الإنسان: صفحتا خديه. وعند الفقهاء العارض الشعر النابت على الخد، ويمتد من أسفل العذار حتى يلاقي الشعر النابت على الذقن.
قال ابن قدامة: العارض هو ما نزل عن حد العذار، وهو الشعر النابت على اللحيين، ونقل عن الأصمعي والمفضل بن سلمة: ما جاوز وتد الأذن عارض، فالعارضان من اللحية. كما في (الموسوعة الفقهية).
وأما الوجنة فهي تقع أعلى الخد.
قال أبو هلال العسكري في (التلخيص في معرفة أسماء الأشياء): الوَجْنَةُ ما نَتأَ منَ الوجهِ. والخدُّ أسفلَ منْ ذلكَ. اهـ.
وقال ابن سيده في (المحكم والمحيط الأعظم): مَا انحدر من المحجر ونتأ من الْوَجْه. وَقيل: مَا نتأ من لحم الْخَدين بَين الصدغين وكنفي الْأنف. وَقيل: هُوَ فرق مَا بَين الْخَدين والمدمع من الْعظم الشاخص فِي الْوَجْه، إِذا وضعت عَلَيْهِ يدك وجدت حجمه. اهـ.
وبهذا يظهر الفرق بين الخد والوجنة، وقد سبق لنا بيان أن شعر الوجنتين لا يدخل في حدود اللحية، بخلاف شعر الخدين والذقن؛ وراجع في ذلك الفتويين: 163715، 203428.
وأما العذاران فهما: جانبا اللحية، وكان الفقهاء أكثر تحديدا للعذار من أهل اللغة، فقد فسره ابن حجر الهيتمي من الشافعية، وابن قدامة والبهوتي من الحنابلة بأنه الشعر النابت على العظم الناتئ المحاذي لصماخ الأذن ( أي خرقها ) يتصل من الأعلى بالصدغ، ومن الأسفل بالعارض. وقال القليوبي: الذي تصرح به عباراتهم أنه إذا جعل خيط مستقيم على أعلى الأذن وأعلى الجبهة فما تحت ذلك الخيط من الملاصق للأذن، المحاذي للعارض هو العذار، وما فوقه هو الصدغ. ويقول ابن عابدين: هو القدر المحاذي للأذن. ويصرح ابن عابدين بأن العذار جزء من اللحية، وعليه فتنطبق عليه أحكامها. وقال البهوتي : لا يدخل منتهى العذار ( أي أعلاه الذي فوق العظم الناتئ ) لأنه شعر متصل بشعر الرأس لم يخرج عن حده أشبه الصدغ، والصدغ من الرأس ( وليس من الوجه ) لحديث الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه مرة واحدة، ولم ينقل أحد أنه غسله مع الوجه. اهـ. من (الموسوعة الفقهية).
وأما علة وجوب إعفاء اللحية، فهي الأمر النبوي بذلك، والذي أظهره صلى الله عليه وسلم من حكمة ذلك: مخالفة غير المسلمين من المشركين وأهل الكتاب والمجوس. ويمكن أن يلتمس لذلك حكم أخرى، كما قال الدهلوي في (حجة الله البالغة): اللحية هي الفارقة بين الصغير والكبير، وهي جمال الفحول وتمام هيأتهم، فلا بد من إعفائها، وقصها سنة المجوس، وفيه تغيير خلق الله، ولحوق أهل السؤدد والكبرياء بالرعاع، ومن طالت شواربه تعلق الطعام والشراب بها، واجتمع فيها الأوساخ وهو من سنة المجوس، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " خالفوا المشركين قصوا الشوارب واعفوا اللحى " اهـ. وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتوى رقم: 210604.
وأما لحية النبي صلى الله عليه وسلم وكثافتها، ووصفها بأنها كانت تملأ نحره أو صدره صلى الله عليه وسلم، فقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 137471. وراجع في تفصيل القول في معنى إعفاء اللحية الفتوى رقم: 187723.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من أخذ ما تطاير منها وما يشوه، وما يدعو إلى الشهرة من طولها وعرضها، فهذا لا يمكن أن يوضع له ضابط من اللغة أو من الشرع، وغايته أن يرجع فيه إلى العرف. وظاهر السنة في ذلك هو الإعفاء مطلقاً دون تعرض لها، وهي الأحق بالاتباع، كما سبق في الفتوى رقم: 14055.
وأما ما نسبه السائل للشيخ الألباني، ونقله عن ابن مسعود تحريم نتف الخدين، فلعله يعني حديث ابن مسعود في لعن النامصة والمتنمصة، وفي بعض طرقه أن ابن مسعود رأى المرأة جبينها يبرق، فقال: أتحلقينه؟ وهذا يدل على أن النمص لا يختص بالحاجبين، ولذلك قال الألباني بعده: فيه أن النتف يشمل غير الحاجب وأن الحلق مثله. اهـ. (آداب الزفاف).
وأما الآثار المروية في رد شهادة من ينتف لحيته، فراجعها في الفتوى رقم: 197947.
والله أعلم.