الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبالنسبة لعدم إيراد الشيخين لهذه الزيادة، فلأنهما لم يشترطا استيعاب جميع روايات الحديث ليتسنى توجيه السؤال لهما ابتداءً! ثم إن لكل منهما شروطا في صحة الحديث لا بد أن تستوفى، هذا مع أن هذه الزيادة ليست مرفوعة، وليس لها علاقة بقصة الحديث أصلا ليعتنيا بها، فالفائدة تقف عند حدود تسمية الرجل الثاني، وأما ما رواء ذلك فمِنْ نافلة القول مما لا تتعلق به فائدة للراوي ولا للمروي! والمتأمل في صنيع الشيخين يستحسن ذلك منهما، والدليل على ذلك أن هذه الزيادة فتحت على السائل نفسه بابا للارتياب والبحث في ما هو غني عنه! فإن البحث في ذلك قد يستتبع الحديث عن شيء مما جرى بين الصحابة الكرام من الخلاف والخصومة!! وأما بخصوص هذه الشبهة: فقد تولى الشيخ ياسين الخليفة في كتابه: إجلاء الحقيقة في سيرة عائشة الصديقة ـ الجواب عنها، فقال: الجواب عن هذه الشُّبْهَة من وجوه:
أولاً: هذه الزيادة شاذة لا تصحن فإعراض الشيخين عن هذه الزيادة، وعدم اتفاق أصحاب الزهري عليها يجعل في القلب منها شيء؟ فسفيان وعقيل وشعيب لم يذكروها في الحديث، وذكرها معمر، ورواها ابن المبارك عن معمر ويونس جمعهما في حديث واحد، وقد أعرض الشيخان عن الزيادة مع روايتهما للحديث من طريق ابن المبارك عن معمر، زد على هذا أن موسى بن أبي عَائِشَة لم يتابع الزهري على هذه الزيادة، كذلك ممن حدث به عن الزهري بغير الزيادة: إبراهيم بن سعد وهو في الطبقات قبل الحديث محل السؤال مباشرة، وقد روى البيهقي في الدلائل الحديث من مغازي ابن إسحاق برواية يونس بن بكير ـ وهو طريق ابن حجر للمغازي ـ فرواه ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن الزهري وليس فيه هذه اللفظة وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، ورواه ابن إسحاق عن الزهري بغير واسطة بدون تلك اللفظة أيضًا، وهذا عند أبي يعلى وإسناده جيد، وصرح ابن إسحاق بالتحديث، فصار من روى الحديث بغير الزيادة: سفيان بن عيينة، وشعيب، وعقيل وإبراهيم بن سعد، ويعقوب بن عتبة، وابن إسحاق وتفرد بالزيادة معمر، وقد أخرج الشيخان الحديث واتفقا على الإعراض عن تلك الزيادة مع أنهما يروياها؟ من طريق معمر، فلعل هذه اللفظة لا تصح في الحديث ولذلك فقد مال بعض طلبة العلم المعاصرين إلى شذوذ هذه الرواية.
ثانياً: على فرض صحة الرواية، فإن هذه مسألة تعتري البشر جميعًا حتى بين أفراد الأسرة الواحدة كغضبة أخ من أخيه أو أخته أو أمه فيفارق اسمه فقط، وهذه أيضًا عادة عند العرب، فكانت أمنا عَائِشَة تقسم: ورب محمد ـ حال رضاها مع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فإن كان هناك شيء قالت: ورب إبراهيم ـ فلما أخبرها النَّبِيّ بمعرفته ذلك قالت: لا أفارق إلا اسمك، يقول الزرقاني في تعليقه على هذه الرواية: وذلك لما جبل عليه الطبع البشري، فلا إزراء في ذلك عليها ولا على عليّ رضي الله عنهما... فربّما وجدتْ عائشة ـ رضي الله عنها ـ في نفسها شيئاً عن علي رضي الله عنه في أمرٍ من الأمور كطبيعة البَّشر، وتوافق مع ذلك الموقف، ولكن من المحال أن يكون حقداً مستمراً، وعداءً لا يزول، بل ذلك من أبعد الأشياء عن عائشة رضي الله عنها، فإنها لم تحمل على الذين خاضوا في الإفك، مع أن ذلك كان من أشدِّ المصائب عليها، فكان نصيب الخائضين من عَائِشَة رضي الله عنها العفو والصفح، حتى إنّها كانت تُنافح عنهم إذا ذكرهم أحدٌ أمامها بسوء، فهذا حسّان بن ثابت رضي الله عنه كان من الخائضين في الإفك، وكان ممّن أكثر في رمي عَائِشَة رضي الله عنها، ومع ذلك لم تحقد عليه الصدّيقة رضي الله عنها، بل كانت تنهى عن سبِّه أو الإساءة إليه، ففي الصحيحين أنّها قالت لعروة بن الزبير لمّا أخذ يسبهّ: لاَ تَسُبَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقالت لمسروق نحوًا من هذا الكلام، أفُيعقل أن تُقّدر مواقف حسّان مع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فتغُضي عن إساءته البالغة إليها، ولا تُقِّدر مواقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وبلاءه الحسن معه وجهاده في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل؟! إنّ من درس أخلاقها رضي الله عنها، واطّلع على مناقبها، يعلم مدى عفوها وصفحها عن كثير من الهنات التي صدرت عن أشخاص أبلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بلاء عليّ رضي الله عنه ويُدرك أنّ ما بينها وبين عليّ ـ رضي الله عنه ـ كما بين الأحماء، كما أخبرت رضي الله عنها بذلك، وصدّقها عليّ رضي الله عنه في قولها.
رابعًا: أَنَّ عَائِشَة ـ رضي الله عنها ـ كانت تحب عليًا، وتكن له كل تقديرٍ واحترام، وقد ذكرتُ ذلك في المبحث الأول من الفصل الثالث: العلاقة الحسنة بين عَائِشَة وآل البيت رضي لله عنهم ـ فليرجع إليه... اهـ.
ومما جاء في هذا المبحث المحال عليه: ومما يدل أيضا على العلاقة الطيبة بين عائشة وعلي رضي الله عنهما، أن عائشة رضي الله عنها كانت أحيانا تحيل السائل على علي ليجيبه، فعن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة، عن المسح على الخفين، فقالت: ائت عليا فإنه أعلم بذلك مني، فأتيت عليا فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ـ وفي رواية: عليك بابن أبي طالب، فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رواه مسلم، وقد سأل عائشة رضي الله عنها آخر، فقال: في كم تصلي المرأة من الثياب؟ فقالت له: سل عليا، ثم ارجع إلي فأخبرني بالذي يقول لك، قال: فأتى عليا فسأله، فقال: في الخمار والدرع السابغ ـ فرجع إلى عائشة فأخبرها، فقالت: صدق. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 191413.
ومع ما تقدم، فإن من أهل العلم من ذكر سببا آخر لإبهام أم المؤمنين عائشة لاسم الرجل الآخر، فقال النووي في شرح مسلم: فسر ابن عباس الآخر بعلي بن أبي طالب، وفي الطريق الآخر: فخرج وَيَدٌ له على الفضل بن عباس، ويد له على رجل آخر ـ وجاء في غير مسلم: بين رجلين، أحدهما أسامة بن زيد ـ وطريق الجمع بين هذا كله أنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، تارة هذا وتارة ذاك وذاك، ويتنافسون في ذلك، وهؤلاء هم خواص أهل بيته الرجال الكبار، وكان العباس رضي الله عنه أكثرهم ملازمة للأخذ بيده الكريمة المباركة صلى الله عليه وسلم، أو أنه أدام الأخذ بيده وإنما يتناوب الباقون في اليد الأخرى، وأكرموا العباس باختصاصه بيد واستمرارها له، لما له من السن والعمومة وغيرهما، ولهذا ذكرته عائشة رضي الله عنها مسمى وأبهمت الرجل الآخر، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازما في جميع الطريق ولا معظمه بخلاف العباس. اهـ.
وقد ذكر العيني في عمدة القارئ الوجهين في الاحتمال، فذكر احتمال أنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر مما يكون سببا في الإعراض عن ذكر اسمه، وذكر كلام النووي، ثم قال: وهذا الجواب أحسن من الأول. اهـ.
والله أعلم.