الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث إنما يروى بمعناه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لا ورب الكعبة، ما أنا قلت: من أصبح وهو جنب فليفطر، محمد صلى الله عليه وسلم قاله" رواه ابن ماجه، وأحمد. وهذا ثابت عنه في الصحيحين، وفيه قصة تبيِّن فقهه، فعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقص، يقول في قصصه: "من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم" فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث ـ يعني أباه ـ فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن، وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول، قال فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم، قال: هما أعلم، ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل: ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك.
وهذه الرواية تبين أصل القضية، فالأمر لا يعدو حصول خلاف، ثم حسم الأمر بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا وجه رواية أبي هريرة في الفتوى رقم: 128216.
وقال ابن حجر في فتح الباري: رجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك؛ إما لرجحان رواية أمَّي المؤمنين في جواز ذلك صريحًا على رواية غيرهما، مع ما في رواية غيرهما من الاحتمال؛ إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب في غير الفرض، وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم، وإما لاعتقاده أن يكون خبر أمي المؤمنين ناسخًا لخبر غيرهما، وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض التابعين، كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف، واستقر الإجماع على خلافه، كما جزم به النووي، وأما ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعًا، أو كالإجماع. اهـ.
وأما من ناحية الخلاف الفقهي في المسألة، فقال ابن عبد البر في التمهيد، وفي الاستذكار: أما اختلاف العلماء في هذا الباب، فالذي عليه جماعة فقهاء الأمصار بالعراق والحجاز القول بحديث عائشة، وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبًا ويصوم ذلك اليوم. وهو قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، ومن الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأصحابهم، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، وابن علية، وأبو عبيد، وداود، والطبري، وجماعة أهل الحديث، وروي عن إبراهيم النخعي، وعروة بن الزبير، وطاووس أن الجنب في رمضان إذا علم بجنابته فلم يغتسل حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى يصبح فهو صائم. وروي مثل ذلك عن أبي هريرة أيضًا، والمشهور عن أبي هريرة أنه قال: لا صوم له، علم أو لم يعلم، إلا أنه قد روينا عنه من طرق صحاح أنه رجع عن ذلك، فالله أعلم، وروي عن الحسن البصري، وسالم بن عبد الله بن عمر أنهما قالا: يتم صيام يومه ذلك، ويقضيه، إذا أصبح فيه جنبًا. وقال إبراهيم النخعي في رواية غير الرواية الأولى عنه: إن ذلك يجزيه في التطوع، ويقضي في الفرض. وكان الحسن بن حي يستحب إن أصبح جنبًا في رمضان أن يقضي ذلك اليوم، وكان يقول: يصوم الرجل تطوعًا، وإن أصبح جنبًا، ولا قضاء عليه. اهـ.
والله أعلم.