الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبسط الكلام في المقدرات وأحكامها موضعه كتب الفقه، ومجالس شرحها، أما هذا المنبر فهو للفتوى، وحل مشاكل الناس؛ ولذلك نقتصر من الجواب على أصل البيان؛ لئلا نحرم السائل من الخير، وأدنى البسط حيث اقتضى المقام، فالقليل خير من الحرمان.
أما السؤال الأول، عن أجناس المقادير وأمثلتها: فقد جاء في الموسوعة الفقهية: المقادير أجناس أربعة، هي: الكيل، والوزن، والذرع، والعدد، وهي كلها وسائل لتقدير الأشياء، والأموال، أو معايرتها بها، فالكيل لتقدير الحجم، والوزن لتقدير الثقل، والذرع لتقدير الطول، والمساحة، والعدد لتقدير الآحاد، أو الأفراد.
ولكل جنس من هذه الأربعة وحدات قياس قديمة وحديثة؛ فالمكيلات - كالسوائل، والحبوب - بالصاع قديمًا، واللتر حديثًا، والموزونات - كالمعادن، واللحوم - بالمثقال قديمًا، والغرام حديثًا، والمذروعات للأطوال، والمساحات، بالذراع قديمًا، والمتر حديثًا، والمعدودات - كالأنعام، والجوز، والبيض، والرمان، والبطيخ - بالعدد قديمًا وحديثًا.
وأما السؤال الثاني عن تغير أحكام المقدرات لاختلاف جنس تقديرها عرفًا: فهذه مسألة دقيقة نرجو التأني في قراءتها:
نعم، أحكام المعاملات المرتبطة بالمقدرات، قد تختلف باختلاف الأعراف الجارية في تقدير المقدرات في تعاملات الناس، وسبب ذلك يرجع في الحقيقة إلى طبيعة علاقة الحكم الشرعي بالتقدير الأصلي القديم لهذه المقدرات؛ وذلك راجع إلى نظر الفقيه المجتهد.
وهذه العلاقة على ثلاثة أنحاء:
الأول: أن يتعلق الحكم بالتقدير الأصلي - كالكيل في التمر - لخصوصية فيه لا تتحقق بغيره من التقديرات: فالحكم لا يتغير مهما تغير التقدير؛ لأن العبرة على هذا بالتقدير الأصلي.
مثاله: كالمماثلة في الكيل في مبادلة الأعيان الربوية المكيلة، كبيع تمر برحي بتمر سكري، فيجب المماثلة بالكيل، فلا يصح بيعه وزنًا: كيلو تمر برحي بكيلو تمر سكري، وإن كان التمر لا يباع إلا بالوزن في العرف القائم؛ لأن المماثلة المشروطة لجواز هذه المبادلة لا تتحقق إلا بالمكالية، فالكيل هو المعيار الشرعي للتمر.
الثاني: أن يتعلق الحكم بالتقدير الأصلي لا لخصوصية فيه، بل لمقصود يمكن أن يتحقق بأي تقدير مناسب: فالحكم لا يتغير مهما تغير التقدير؛ لأن المقصود بالتقدير الأصلي يحققه كل تقدير.
مثاله: كالبيع المطلق - العادي - للمقدرات كبيع كيلو غرام تمر بثلاثين دينارًا، فيجوز بيع المكيل وزنًا، والموزون كيلًا مهما تغيرت المقادير العرفية؛ لحصول شرط العلم بالمبيع بأي تقدير محدد معروف بين المتبايعين، وكذلك القبض، وبالتالي الضمان ـ كما أشار إليه السائل ـ لأن القبض يحصل بالتوفية - الفرز - وهو لا يتوقف على تقدير بعينه، بل بالمحدد بين المتبايعين، وهو شرط بيعه ثانية لنهي النّبيّ صَلَى اللّه عليه وسَلّم عن بيع الطعام حتى يقبض؛ قال الشيخ منصور: وَكَانَ الطَّعَامُ يَوْمئِذٍ مُسْتَعْمَلًا غَالِبًا فِيمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَقِيسَ عَلَيْهِمَا الْمَعْدُودُ، وَالْمَذْرُوعُ؛ لِاحْتِيَاجِهِمَا لِحَقِّ تَوْفِيَةٍ.
الثالث: أن يتعلق الحكم بالتقدير الأصلي، لا لخصوصية فيه، بل لكونه هو التقدير الذي تعارف عليه الناس، فمهما تعارف الناس على تقدير غيره صحت المعاملة به، ولولا تعارفه بين الناس ما صحت المعاملة به.
مثاله: كالقرض في المقدرات يردّ بمثله، لكن المعتبر في المماثلة هنا أن يكون في تقدير متعارف عليه، كالدراهم الفضية كانت تقدر بالوزن، فتعامل الناس فيها بالعدد، فلذلك جاز التداين - القرض - فيها بالعدد، قال الموفق في المغني: وإن كانت الدراهم يتعامل بها عددًا، فاستقرض عددًا، رد عددًا، وإن استقرض وزنًا ردّ وزنًا. فاشترط عرفية عدها للتداين بها عددًا. قال الشيخ منصور موضحًا ما قرره الموفق كما في الكشاف: عملًا بالعرف (ولو اقترض مكيلًا) جزافًا (أو موزونًا جزافًا وقدره) أي: المكيل (بمكيال بعينه، أو) قدر الموزون ب (صنجة بعينها، غير معروفين عند العامة لم يصح) القرض؛ لأنه لا يأمن تلف ذلك، فيتعذر رد المثل)، أما رده بالقيمة فباب آخر، وهو المصارفة على ما في الذمة.
فهذه الأنحاء الثلاثة من العلاقة توضح أثر تغير تقدير المقدرات عرفًا على أحكامها المختلفة شرعًا من بيع، وقرض، وبيع للأعيان الربوية.
أما السؤال الثالث عن تطبيق المسألة على بيع الأغنام: فنحب أن يتنبه السائل إلى أن الغنم يباع عدًّا بالرؤوس، لا وزنًا، وإنما يقدّر ثمنه بوزنه، ولا حرج في ذلك، وفرق بين طريقة البيع، وبين كيفية تقدير السعر، فلا يعتبر الغنم موزونًا، بل هو معدود قديمًا وحديثًا.
وفيما يخص مسألة القبض، لو اشترى قطيعًا من الغنم، فلا يبعه حتى يعده.
والله أعلم.