الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل أن المسلم لا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله تعالى؛ لقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:60].
لكن لو فقدت المحاكم الإسلامية، واحتاج المرء للذهاب إلى المحاكم الوضعية؛ لدفع الظلم، أوإحقاق الحق. فلا حرج عليه تحقيقاً لبعض المصالح، أو دفعاً لبعض المفاسد، وإعمالا لقاعدة الضرورة، واستيفاء للحقوق، واستخلاصا للمظالم عند انعدام البديل الشرعي. وبسط أدلة ذلك في تفسير المنار لمحمد رشيد رضا عند تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. سورة آل عمران الآية 47، ج6ص335 وما بعدها.
كما أن مواد القانون الوضعي ليست كلها مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية ففيها: الصدق، والوفاء، وإتقان العمل، وعدم الاعتداء على الآخرين بغير حق، والعدل، والمساواة بين الناس في أمور الحياة، فهذه الأمور ونحوها كثيرة في شرعنا، وتنص عليها جميع القوانين.
وقد أورد الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله: في الشرح الممتع: مسألة: هل يجوز أن نتحاكم إلى من يحكمون بالقانون الوضعي إذا كنا محقين، أو نترك حقوقنا للضياع؟
الجواب: ذكر ابن القيم في أول كتاب الطرق الحكمية أن من الفقهاء من قال: لا نتحاكم إليهم، وقال: هذا لا يمكن أن تصلح به أحوال الناس، لا سيما مع كثرة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، فلك أن تتحاكم إليهم؛ لكن لو حُكِمَ لك بغير ما أنزل الله فرده، وأما أن تضيع حقوق الناس فلا؛ لأنه ربما تكون أملاك وفيها ورثة كثيرون، فلا يجوز أن نضيعها من أجل أن هذا يحكم بالقانون، بل نتحاكم إليه، فإن حكم بالحق، فالحق مقبول من أي إنسان، وإلا فلا. اهـ
وعلى كل، فدليل إباحة التحاكم إلى تلك المحاكم عند تعينها لدفع الظلم، أو إحقاق الحق، هو الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلتها؛ لعموم البلوى بذلك.
والله أعلم.