الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتعلق القلب بغير الله تعالى من أعظم ما يفسده، ويوقع صاحبه في المعاصي - والعياذ بالله -.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: المفسد الثالث من مفسدات القلب: التعلق بغير الله تبارك تعالى، وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق، فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه، وسعادته منه؛ فإنه إذا تعلق بغير الله، وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل؛ قال الله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم: 81 - 82] وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} [يس: 74 - 75] فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه، وسعادته، وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت، وأوهن البيوت.
وبالجملة: فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها: التعلق بغير الله، ولصاحبه الذم والخذلان، كما قال تعالى: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذمومًا مخذولًا} [الإسراء: 22] مذمومًا: لا حامد لك، مخذولًا: لا ناصر لك، إذ قد يكون بعض الناس مقهورًا، محمودًا كالذي قهر بباطل، وقد يكون مذمومًا، منصورًا، كالذي قهر وتسلط عليه بباطل، وقد يكون محمودًا، منصورًا كالذي تمكن وملك بحق، والمشرك المتعلق بغير الله، قسمه أردأ الأقسام الأربعة، لا محمود، ولا منصور. اهـ.
وقال في الفوائد: أصول المعاصي كلها كبارها، وصغارها ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك، والظلم، والفواحش، فغاية التعلق بغير الله شرك، وأن يدعى معه إله آخر، وغاية طاعة القوة الغضبية القتل، وغاية القوة الشهوانية الزنا، ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}. اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة: أصول الدين الإسلامي: التعلق بغير الله تعالى في جلب خير، أو دفع شر، استقلالًا أو توسيطًا: شرك. اهـ.
وأما تفصيل الكلام في ذلك من حيث الرتبة والأحكام، فقد قال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد: أقسام التعلق بغير الله:
الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادًا معرضًا عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب؛ ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.
الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله عز وجل، وعدم صرف قلبه إليه، فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر؛ لأن هذا السبب جعله الله سببًا.
الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقًا مجردًا لكونه سببًا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله، فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله عز وجل؛ فهذا لا ينافي التوحيد، لا كمالًا ولا أصلًا، وعلى هذا لا إثم فيه.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة، ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقًا كاملًا، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله، قد وقع في نوع من الشرك.
أما إذا اعتقد أن المرتب سبب، والمسبب هو الله سبحانه وتعالى، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب، فهذا لا ينافي التوكل، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله عز وجل. اهـ.
وأما السؤال الثاني، فجوابه: أن الصفح الجميل، والعفو الكريم، منزلة فاضلة مبعثها حسن الخلق، والرغبة في ثواب الله، فليست ضعفًا ولا هوانًا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا. رواه مسلم.
وراجعي للتفصيل في ذلك الفتويين: 114568، 133210.
والله أعلم.