الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا بأس بالاحتفال بالزفاف في بيت الزوجة، وإعداد مأدبة لذلك من طرف أهل الزوجة غير الوليمة المسنونة، ودعوة الناس إليها ما دامت الضوابط الشرعية للأفراح مرعية، والمنكرات من الاختلاط، والغناء معدومة. ووجه ذلك أن الأصل في الأفعال غير التعبدية الإباحة. وقد قال الشيخ منصور في الكشاف على الإقناع بعد ذكره لأنواع: (وجميعها) أي الدعوات (جائزة) أي مباحة؛ لأنها الأصل في الأشياء، غير مأتم فيكره. اهـ. بل ظاهر كلام الموفق في الكافي، والمغني الاستحباب حيث قال: فحكم الدعوة للختان، وسائر الدعوات غير الوليمة أنها مستحبة؛ لما فيها من إطعام الطعام، والإجابة إليها مستحبة غير واجبة. اهـ.
وأما الاستدلال على البدعية بعدم الأمر النبوي بها، وعدم الفعل لها، فليس على بابه؛ لأن الدليل أعم من المطلوب، فدلالة العدم أمرا وفعلا إنما تصلح على البدعية فيما أصله التوقف كالعبادة، لا ما أصله الإباحة كالعادة؛ لأن الصحيح أن مورد البدعة هو الإحداث في الدين، والعبادات، لا في التقاليد والعادات، كما قررناه مفصلا في الفتوى رقم: 121142.
وأما في العادات، فيدل ترك الأمر بها، وعدم فعلها على عدم الاستحباب، كما وجه هذا الاستدلال الشيخ منصور فقال في الكشاف على الإقناع ممزوجين: (وسائر الدعوات) غير الوليمة (مباحة) فلا تكره، ولا تستحب نصّا. أما عدم الكراهة فلحديث جابر مرفوعا: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك» رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما. وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس، وغير العرس، ويأتيها وهو صائم. متفق عليه. ولو كانت مكروهة لم يأمر بإجابتها، ولبينها. وأما عدم استحبابها، فلأنها لم تكن تفعل في عهده عليه الصلاة والسلام، وعهد أصحابه. اهـ.
ولعل السائل يقصد الاستدلال بالأثر المشهور عن عثمان بن أبي العاص؛ ففي مسند الإمام أحمد عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: دُعِيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ إِلَى خِتَانٍ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّا كُنَّا لَا نَأْتِي الْخِتَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نُدْعَى لَهُ» فهذا لا يدل على البدعية.
فقد أجاب عليه الحافظ في الفتح بأنه مختص بختان النساء لا بختان الذكور، فضلا عن سائر الولائم فقال: وقد ذكرت في أبواب الوليمة من كتاب النكاح مشروعية الدعوة في الختان. وما أخرجه أحمد من طريق الحسن، عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فقال: ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ندعى له. وأخرجه أبو الشيخ من رواية، فبين أنه كان ختان جارية. وقد نقل الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل أن السنة إظهار ختان الذكر، وإخفاء ختان الأنثى. والله أعلم. اهـ. كما أن في الخبر ضعفا لعنعنة محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد ضعف الأثر الأرنؤوط في تخريج المسند.
وأما الإجابة إليها فمستحبة كسائر الدعوات على المختار. قال البهوتي في الدقائق شرح المنتهى ممزوجين: (والإجابة إليها) أي: الدعوات غير الوليمة (مستحبة) لحديث البراء مرفوعا: «أمر بإجابة الداعي» متفق عليه. وأدنى أحوال الأمر الاستحباب؛ ولما فيها من جبر قلب الداعي، وتطييب خاطره، ودعي أحمد إلى ختان فأجاب، وأكل (غير مأتم فتكره) إجابة داعيه لما مر في الجنائز. اهـ.
واختار المالكية الجواز، وأما الوجوب فهو قول للشافعية، ونسبه الشوكاني لجمهور الصحابة، والتابعين في نيل الأوطار فقال: وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ وُجُوبُ الْإِجَابَةِ إلَى سَائِرِ الْوَلَائِمِ. اهـ. وجاء في الموسوعة الفقهية: ومذهب المالكية على ما عند ابن رشد: أن الإجابة لغير العرس، والعقيقة مباحة، وقيل هي مكروهة، والمأدبة إذا فعلت لإيناس الجار، ومودته، مندوبة. وفي قول للشافعية: إن الإجابة واجبة على المدعو في وليمة العرس وغيرها. اهـ.
وإذا كان الاحتفال، والمأدبة، والدعوة إليها مباحة أو مستحبة، لم يجز الإنكار عليها بهذا الاعتبار، أعني عدم الدليل الخاص على مشروعيتها، نعم إذا اشتمل الاحتفال على شيء من المنكرات، وجب الإنكار ولا تشرع الإجابة إلا مع الإنكار.
والله أعلم.