الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كثرت منك الأسئلة في هذا المجال، ونفيدك بأن الآخرة يظهر فيها ما عمله الإنسان، وما كان يستتر به عن الناس، وتشهد عليه الجوارح بما عمل، وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن تفسير قوله تعالى في سورة الزلزلة: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {الزلزلة:4} هو أن تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ؛ كما سبق تفصيله في الفتوى رقم: 25711.
ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ {الطارق:9}، قال ابن كثير في تفسيره: أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية، والمكنون مشهورًا، وقد ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرفع لكل غادر لواء عند استه، يقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان. اهـ.
وقال السعدي: أي: تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه؛ قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. ففي الدنيا تنكتم كثير من الأمور ولا تظهر عيانًا للناس، وأما في القيامة فيظهر بر الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية. اهـ.
ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ {هود:103}، قال البغوي: وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: يشهده أهل السماء والأرض. اهـ.
وقال الشعراوي: أي: أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر؛ من لدن آدم إلى آخر البشر؛ لذلك تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم الإنسان؛ وأمام من لا يعرفهم. اهـ.
وقد سبق لنا فتوى عن نطق الجوارح يوم القيامة بما عمل الإنسان، وهي برقم: 104699، ولكن الأولى بك أن تصرفي اهتمامك لما تحصل به النجاة من الكروب التي تقع في القبر، وفي الآخرة، ومن أراد أن ينجو من هذه الكروب جميعها فعليه بتقوى الله وطاعته، فالمتقون آمنون حين يفزع الناس يوم القيامة؛ قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ {النمل:89}.
وعلى المسلم أن يجعل همه التزود من العمل الصالح الذي ينجيه من كرب يوم القيامة، ويهون عليه خطوبها، وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من سأله عن وقت قيام الساعة، فعن أنس بن مالك: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت. متفق عليه.
وقال ابن رجب: وهذا كما سأله الأعرابي: متى الساعة؟ فقال: ما أعددت لها؟ فأعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها؛ لأنه هو المأمور به، وهو الذي يعني السائل وغيره، وينبغي الاهتمام به. اهـ.
وجاء في دليل الفالحين: قال العاقولي: وقوله: ما أعددت لها؟ من أسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن الوقت؟ فقيل له: ما لك ولها، إنما يهمك التزود لها، والعمل بما ينفعك فيها. اهـ.
والله أعلم.