الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تطرقنا لهذه المسألة مرارا، وناقشنا هذا الطرح مبينين أنه لم يقل أحد من العلماء فيما نعلم بعدم انتقاض الوضوء بتلك الرطوبات قبل ابن حزم، والأصل أننا لا نقول بقول إلا أن يسبقنا إليه أحد الأئمة المشهورين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. انتهى.
وبه تعلمين أن كل ما تورده تلك الباحثة الفاضلة أو غيرها في هذا الأمر مما يسمى استدلالا مما لا ينبغي الاشتغال بالنظر فيه أو الجواب عنه ما دام الأمر -كما وصفنا- من أنه لم يذهب إلى هذا القول ذاهب من أهل العلم المتقدمين، ومحال أن تجتمع الأمة على ضلالة، ويمكننا عكس هذا الدليل بأن نقول إن الفقهاء ينصون عبر العصور على انتقاض الوضوء بكل خارج من السبيل ولم نر منهم من استثنى تلك الرطوبات، وقد قال النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فِسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وهذا من أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أراد أن يبين أن كل خارج من السبيل ناقض للوضوء بطريق الأولى، قال الزرقاني في شرح الموطأ: وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِهِمَا تَنْبِيهًا بِالْأَخَفِّ عَلَى الْأَغْلَظِ، وَأَنَّهُ أَجَابَ السَّائِلَ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي غَالِبِ الْأُمُورِ، وَإِلَّا فَالْحَدَثُ يُطْلَقُ عَلَى الْخَارِجِ الْمُعْتَادِ، وَعَلَى نَفْسِ الْخُرُوجِ، وَعَلَى الْوَصْفِ الْحُكْمِيِّ الْمُقَدَّرِ قِيَامُهُ بِالْأَعْضَاءِ قِيَامَ الْأَوْصَافِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْعِبَادَةِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ. انتهى.
وعلى كل تقدير، فالذي نفتي به ونرى أنه لا يسوغ خلافه هو ما قررناه مرارا من كون هذه الرطوبات ناقضة للوضوء، ثم إن كان خروجها مستمرا فحكم صاحبتها حكم صاحبة السلس، والمالكية لا يرون انتقاض الطهارة بالحدث الدائم ـ كما هو معلوم ـ ولتنظر الفتوى رقم: 141250.
ثم إن الراجح طهارة هذه الرطوبات، كما وضحناه في الفتوى رقم: 110928.
والله أعلم.