الحمد لله، غافر الذنب، وقابل التوب، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد نظم الإسلام علاقة الآباء بالأبناء، فجعل لكل منهما حقوقا نحو الآخر، وفرض عليه واجبات. فمن حق الآباء على الأبناء: وجوب الطاعة، وحرمة الهجر والقطيعة، فإن ذلك من أعظم العقوق، وقد قال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا يدخل الجنة قاطع. متفق عليه، ولا شك أن ترك بيتهما، ومقاطعتهما من أعظم الهجر، وقطيعة الرحم. قال القاضي عياض ـ فيما نقله عنه العيني في شرحه على البخاري ـ : وللصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة . اهـ. وللمزيد في تقرير حرمة هجر الآباء تنظر الفتاوى أرقام: 49048، 40427، 17754. كما أن من حق الأبناء على الآباء: حسن الرعاية، والتربية على أخلاق الإسلام ومنها الحشمة، والعفة، وليس لهما أن يفعلا ما يحلو لهما بالأبناء، بل الأبناء من أعظم الأمانة في أعناق الآباء؛ ففي البخاري من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال : وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وليس من أدب الإسلام في معاملة الأبناء السخرية، ولا التعيير بالمصيبة؛ فعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله، ويبتليك. رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهو معنى ما ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي حيث قال: وكل معصية عيرت بها أخاك، فهي إليك. اهـ من منازل السائرين.
بل الشماتة من دأب الأعداء؛ فقد كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلمـ يستعيذ بالله من شماتة الأعداء. كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه-
وللمزيد في تقرير حقوق الأبناء على الآباء تنظر الفتاوى التالية أرقامها:211768، 23307، 190121.
فإذا تقرر أن لكل من الآباء والأبناء مع الآخر حقوقا، وواجبات فاعلم أن حق الوالدين أعظم بكثير من حق الأبناء؛ ولذلك وجبت طاعتهما دون العكس بالإجماع. ومن ثم لم يكن للأبناء حق المعاملة بالمثل؛ فإذا قصر الآباء في أداء حق الأبناء عليهم، لم يكن للأبناء أن يقصروا في واجباتهم نحو الآباء، ويدل على هذا الأصل من كتاب الله أن من أعظم الظلم أن يجاهد الأبوان الولد على أن يشرك بالله تعالى، ورغم ذلك فقد أمر الله بحسن صحبتهما، ومعاشرتهما بالمعروف.
قال الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}،}: "ولم يقل الله عز وجل: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال: {فَلا تُطِعْهُمَا} أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه؛ ولهذا قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما. " انتهى من (تيسر الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان).
وبناء عليه، فليس لك مقاطعة أبويك وهجرهما، وترك برهما مهما عظمت إساءتهما، بل الواجب الصبر على أذاهما، واحتمال إساءتهما، بل مقابلتها بالإحسان، فإن الوالد أوسط أبواب الجنة، وهي تحت أقدام الأمهات، وذلك خير سبيل لكسب ودهما، ونيل رضاهما، ومن ثم كفّ ألسنتهما عن التعيير والشماتة، وأفضل ما عاملت من عصى الله فيك، أن تطيع الله فيه.
على أن ذلك لا يمنع من نصحهما بالرفق، واللين إذا اقتضى المقام ذلك.
فقد روى حنبل عن الإمام أحمد: إذا رأى أباه على أمر يكرهه، يكلمه بغير عنف، ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وليس الأب كالأجنبي. اهـ.
مراعيا في ذلك آداب الاحتساب على الوالدين التي قررناها في الفتاوى التالية أرقامها: 224710، 18216، 245989 .
والله أعلم.