الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالاعتدال مطلوب في الإنفاق، وفي كل شيء، وتوجيهات الإسلام في ذلك واضحة، ومعلومة في نصوص الوحي، وفي أقوال العلماء.
وبخصوص الصدقة، والإنفاق في وجوه البر لوجه الله تعالى، فلا يدخل في الإسراف المنهي عنه، وخاصة إذا كان فاعله صابرا، قانعا؛ فقد تبرع كثير من الصحابة بغالب أموالهم، ومنهم من تبرع بماله كله، وأقرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك؛ وانظري الفتوى رقم: 114410.
وقال المايابي الشنقيطي في نظم نوازل العلوي:
وكثرة الإنفاق والهباتِ * تُعَدّ من دلائل الخـــيراتِ
فمُولَعٌ بذاك لا يُســـفّهُ * والقول بالحَجر عليه سفَهُ
وقال ابن أبي زيد المالكي في الرسالة: ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله تعالى. اهـ.
قال النفراوي في شرح الرسالة: ومحل ندب التصدق بجميع المال، أن يكون المتصدق طيب النفس بعد الصدقة بجميع ماله، بحيث لا يندم على البقاء بلا مال، وأن ما يرجوه في المستقبل مماثلا لما تصدق به في الحال، وأن لا يكون يحتاج إليه في المستقبل لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، أو يندب له الإنفاق عليه، وإلا لم يندب له ذلك، بل يحرم عليه إن تحقق الحاجة لمن تلزمه نفقته، أو يكره إن تيقن الحاجة إليه لمن يندب الإنفاق عليه كحواشيه؛ لأن الأفضل أن يتصدق بما يفضل عن مؤنته، ومؤنة من ينفق عليه. اهـ.
ولا تعارض بين ما ذكرناه، وبين الآية التي أشرت إليها.
فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير، عند تفسيرها: ... قال ابن مسعود: التبذير الإنفاق في غير حق، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله في الحق لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا. وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق والفساد، وقوله: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}: أي في التبذير والسفه، وترك طاعة الله، وارتكاب معصيته، ولهذا قال: {وكان الشيطان لربه كفورا}: أي جحودا؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته. اهـ.
وفي صفوة التفاسير للصابوني: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} أي لا تنفق مالكَ في غير طاعة الله، فتكون مبذّراً، والتبذير الإِنفاق في غير حق. قال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كلَّه في الحق لم يكن مبذّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق كان مبذّراً. وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق والفساد {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} هذا تعليل للنهي، وهو غاية في الذم، والتقبيح أي إن المبذرين كانوا أمثال الشياطين، وأشباههم في الإِفساد؛ لأنهم ينفقون في الباطل، وينفقون في الشر، والمعصية، فهم أمثالهم. اهـ.
وأما ادخار المال فليس بحرام، ولا حرج على المسلم في أن يسعى إلى تحصيل المال من وجوه الحلال، وأن يدخره لحوائجه؛ ففي الحديث: نعم المال الصالح للمرء الصالح. رواه أحمد. وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى. رواه مسلم. وانظري الفتوى رقم: 67992.
وأما حديث أنَس- رضي الله عنه- كما جاء في صحيح ابن حبان وغيره أنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لا يَدَّخِرُ شَيْئاً لِغَدٍ. فقال بعض العلماء في شرحه: لا يدخر شيئا لنفسه، أو لا يدخر شيئا مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سنتهم.
قال الحافظ في الفتح: قال ابن دقيق العيد: في الحديث جواز الادخار للأهل قوت سنة، وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه، وبين حديث: كان لا يدخر شيئاً لغد. فيحمل على الادخار لنفسه، وحديث الباب على الادخار لغيره. اهـ.
وراجعي الفتوى رقم: 191905.
والله أعلم.