الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالسنة أن يصلي بالناس أقرؤهم للقرآن، كما في صحيح مسلم، من حديث أبي مسعود-رضي الله عنه-أن النبي صلوات الله عليه قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله.
فإذا كنت تعلم من نفسك، ويعلم منك إخوانك أنك أقرأ القوم، فينبغي أن ُتقدم للإمامة؛ امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تقدم من هو دونك من غير إذنك، وكان يأتي بالأركان سليمة، فالصلاة حينئذ صحيحة، مع كراهة نص عليها بعض أهل العلم.
جاء في الإنصاف: فإمامة المفضول بدون إذن الفاضل، مكروهة على الصحيح من المذهب، نص عليه. اهـ.
ولا شك أن الشرع يحث على تقديم الأفضل للإمامة، بنص الحديث السابق، لكن إذا كانت جماعة المسجد تتضايق من إمامته، ولا تريده، فلا يتقدم؛ لورود الأحاديث في النهي عن ذلك، منها ما روى عبد الرزاق في مصنفه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أم قوما وهم له كارهون، لم تجاوز صلاته ترقوته. قال الشيخ الألباني: صحيح بمجموع رواية جمع من الصحابة، بألفاظ متقاربة. اهـ
وجاء في الأم: قال الشَّافِعِيُّ-رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ من أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ له كَارِهُونَ، وَلَا صَلَاةُ امْرَأَةٍ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ عنها، وَلَا عَبْدٌ آبِقٌ حتى يَرْجِعَ. ولم أَحْفَظْ من وَجْهٍ يُثْبِتُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مثله، وَإِنَّمَا عنى بِهِ- وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- الرَّجُلُ غَيْرُ الوالي يَؤُمُّ جَمَاعَةً يَكْرَهُونَهُ، فَأَكْرَهُ ذلك لِلْإِمَامِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ على الْمَأْمُومِ، يعنى في هذا الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لم يُحْدِثْ شيئا كُرِهَ له، وَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ في هذه الْحَالِ مُجْزِئَةٌ، وَلَا أَعْلَمُ على الْإِمَامِ إعَادَةً؛ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ في التَّقَدُّمِ لَا تَمْنَعُهُ من أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ خِفْت عليه في التَّقَدُّمِ. اهـ.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي هنا مقيد بما إذا كانت كراهة القوم لمن يؤمهم ناتجة عن غرض صحيح، وإلا فلا عبرة بها.
جاء في منح الجليل: و كره إمامة من يكره، بضم المثناة، وفتح الراء أي كرهه أقل الجماعة غير ذي الفضل منهم، فإن كرهه كلهم، أو جلهم، أو ذو الفضل منهم وإن قل، فإمامته محرمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله من أم قوما وهم له كارهون. ولقول عمر- رضي الله تعالى عنه-: لأن تضرب عنقي، أحب إلي من ذلك. إذا كانت كراهته لارتكابه أمورا مزرية موجبة للزهد فيه، والكراهة له، ولتساهله في السنن كالوتر، والعيد، والنوافل كالرواتب، ولا عبرة بكراهته لغرض فاسد. اهـ.
إلا أن هذا يعارض ظاهر الأحاديث، حيث أطلقت ولم تقيد.
يقول الشيخ العثيمين، في الشرح الممتع على زاد المستقنع: وأفادنا قوله: «بِحَقٍّ» أنَّهم لو كرهوه بغير حَقٍّ، مثل: لو كرهوه لأنَّه يَحْرِصُ على اتِّباعِ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ فيقرأ بهم السُّورَ المسنونةَ، ويُصلِّي بهم صلاةً متأنيةً، فإن إمامتَه فيهم لا تُكره؛ لأنَّهم كرهوه بغيرِ حَقٍّ، فلا عِبرةَ بكراهتهم. لكن؛ ظاهرُ الحديثِ الكراهةُ مطلقاً، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِن صلاةِ الجماعةِ هو الائتلافُ، والاجتماعُ. وإذا كان هذا هو الغَرضُ؛ فمِنَ المعلومِ أنَّه لا ائتلافَ، ولا اجتماعَ إلى شخصٍ مكروهٍ عندَهم، وينبغي له إذا كانوا يكرهونَه بغير حَقٍّ أنْ يَعِظَهُم ويُذكِّرَهم، ويتألَّفَهم؛ ويُصلِّيَ بهم حسب ما جاءَ في السُّنَّةِ، وإذا عَلِمَ اللهُ مِن نِيَّتِهِ صِدْقَ نِيَّةِ التأليفِ بينهم يَسَّرَ اللهُ له ذلك. اهـ.
وعلى كل، فترك بعض المستحبات لتأليف القلوب مما يشرع كما بيناه في الفتوى رقم: 134457، وعليه فإن ترك الإمامة بمن يتضايقون من إمامتك أولى، سواء كان تضايقهم له ما يبرره أم لا.
والله أعلم.