الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما الفناء عن إرادة السوى: فهو مقارب لمعنى توحيد الألوهية، قال ابن القيم في مدارج السالكين: فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين وهو الفناء عن إرادة السوى، شائما برق الفناء عن إرادة ما سواه، سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه، فانيا بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه، فضلا عن إرادة غيره، قد اتحد مراده بمراد محبوبه ـ أعني المراد الديني الأمري، لا المراد الكوني القدري ـ فصار المرادان واحدا، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب، وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب، فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم، فنوا بعبادة محبوبهم عن عبادة ما سواه، وبحبه، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والاستعانة به، والطلب منه، عن حب ما سواه وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا فيه، ولا يوالي إلا فيه، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعطي إلا له، ولا يمنع إلا له، ولا يرجو إلا إياه، ولا يستعين إلا به، فيكون دينه كله ظاهرا وباطنا لله، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه، بل: يعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا ولو كان الحبيب المصافيا ـ وحقيقة ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربه وحقوقه، والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علما ومعرفة، وعملا وحالا وقصدا، وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمنته هذه الشهادة هو الفناء والبقاء، فيفنى عن تأليه ما سواه علما وإقرارا وتعبدا، ويبقى بتأليهه وحده، فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد الذي عليه المرسلون، وأنزلت به الكتب، وخلقت لأجله الخليقة، وشرعت له الشرائع، وقام عليه سوق الجنة، وأسس عليه الخلق والأمر. انتهى.
وقوله: التوحيد الذي عليه المرسلون، يعني توحيد الألوهية، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {النحل: 36}.
وانظر الفتوى رقم: 20994.
وأما تجريد التوحيد، فالمقصود تصفيته من شوائب الشرك الأكبر والأصغر، وهو بذلك يقارب أيضا توحيد الألوهية، قال ابن القيم في مدارج السالكين: وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ـ وقد سأله من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ـ كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة هو تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. انتهى.
وعلى هذا، فمفاد الجمل الثلاثة واحد، إلا أن استخدام لفظ: توحيد الألوهية ـ أفضل كثيرا من: الفناء عن إرادة السوى ـ فالأول استخدمه أئمة السنة كثيرا، والثاني، يستعمله الصوفية، وفيه معان صحيحة، وقد يريدون به معاني باطلة، وإنما فصل ابن القيم الكلام عليه لشيوعه بينهم، وإلا، فالأولى لزوم الألفاظ الواردة عن أئمة السلف في ذلك، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في درء تعارض العقل والنقل: وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا احتيج إلي ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ـ وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة، لأن أباها كان من المهاجرين إليها ـ فقال لها: يا أم خالد، هذا سنا ـ والسنا بلسان الحبشة الحسن، لأنها كانت من أهل هذه اللغة. اهـ
وذلك في سياق كلامه حول: الجوهر والعرض، وهي ألفاظ لم يستعملها السلف.
والله أعلم.