الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فعلاج هذه الأفكار، وتلك الوساوس: أن تعلم أن الله تعالى حكيم، فلا يقدر شيئا إلا لحكمة بالغة، فهو سبحانه يضع كل شيء في موضعه، ويوقعه في موقعه، وعقول البشر عاجزة عن إدراك سر حكمة الله تعالى في أقضيته، ومن ثم فوظيفة البشر هي: التسليم، والإذعان، والانقياد لحكمه الشرعي، والكوني القدري، مع الإيمان واليقين بأن شيئا لا يجري في هذا الكون إلا وهو جار على مقتضى الحكمة، وأن الله تعالى يستحق الحمد على جميع ما يقدره ويقضيه، فإنه سبحانه له الملك، وله الحمد، قال ابن القيم: والرب سبحانه حمده قد ملأ السماوات والأرض، وما بينهما، وما بعد ذلك، فملأ العالم العلوي، والسفلي، والدنيا، والآخرة، ووسع حمده ما وسع علمه، فله الحمد التام على جميع خلقه، ولا حكم يحكم إلا بحمده، ولا قامت السماوات والأرض إلا بحمده، ولا يتحول شيء في العالم العلوي والسفلي من حال إلى حال إلا بحمده. انتهى، فإذا استقر في نفسك هذا المعنى، وعلمت أن الله تعالى محمود على كل ما يقدره ويقضيه، وأن أقداره جارية على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {هود:56}، زال عنك كل وسواس في هذا الباب، وعلمت أن الله قد يقدر الشر لما يتضمنه من الخير، والرحمة، والحكمة، والمصلحة، ففعل الرب كله خير، وإن كان المفعول شرا من بعض الوجوه، فقضاء الله كله خير، وإن كان المقدر المقضي قد يشتمل على بعض الشر، وإنما قدره وقضاه لما يعقبه من الخير الذي ما كان ليحصل لولا تقدير هذا الشر، يقول ابن القيم -رحمه الله-: وَأَمْرُهُ بِالْعَدْلِ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ الدِّينِيَّ، وَالْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَكِلَاهُمَا عَدْلٌ لَا جَوْرَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِي حُكْمُك، عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك» فَقَضَاؤُهُ هُوَ أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ.،، فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ، فَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقٌّ وَعَدْلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقْضِيِّ الْمُقَدَّرِ مَا هُوَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ، فَالْقَضَاءُ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ، وَالْقَدَرُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ:-كذا في إعلام الموقعين وصوابه: هود-:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] فَقَوْلُهُ: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] نَظِيرُ قَوْلِهِ: «نَاصِيَتِي بِيَدِك» وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] نَظِيرُ قَوْلِهِ: «عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك» . فَالْأَوَّلُ مُلْكُهُ، وَالثَّانِي حَمْدُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْعَدْلِ، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ، وَرَحْمَةٌ، وَحِكْمَةٌ، وَعَدْلٌ؛ فَهُوَ عَلَى الْحَقِّ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَلَا يَقْضِي عَلَى الْعَبْدِ بِمَا يَكُونُ ظَالِمًا لَهُ بِهِ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ ذَنْبِهِ، وَلَا يَنْقُصُهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَلَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْهَا شَيْئًا، وَلَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَا يَفْعَلُ قَطُّ مَا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْعَوَاقِبُ الْحَمِيدَةُ، وَالْغَايَاتُ الْمَطْلُوبَةُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ. انتهى، فتقدير هذا الخراب والشر في بعض بلاد المسلمين لله فيه حكم بالغة، لعل منها: أن يمتحن أولياءه، ويرفعهم درجات، ولعل منها: أن يردهم إلى دينه الحق، فيعلموا أنه لا صلاح لهم إلا بالإقبال عليه سبحانه، وفعل أمره، وترك نهيه، فيتركوا ما يسخطه سبحانه، ولعل منها: الإملاء للظالمين ليزدادوا إثما، فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم التي تشتمل عليها أقضيته سبحانه، والتي العباد عاجزون عن إدراك عشر معشارها، فدع عنك هذه الوساوس، وفوض الأمر لربك تعالى، وأيقن بحكمته، وعدله، وأنه لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وتوكل عليه، وأحسن ظنك به، وسله حسن الخاتمة، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه سبحانه يقلبها كيف يشاء.
والله أعلم.