الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننوه أولا إلى أن أحكام الصداقة الشخصية بين المسلمات -سواء على المستوى الفردي أم المجموعات- لا تخرج عن حقوق الرابطة الأخوية العامة بين المسلمين، ومن جملة هذه الحقوق: حرمة المقاطعة والهجر فوق ثلاثة أيام بغير مسوغ شرعي؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ. متفق عليه.
ومن المسوغات الشرعية: حصول الأذى، فتجوز مقاطعة الصديقة المؤذية فوق ثلاث دفعا لأذاها؛ لقول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا ضرر ولا ضرار" وهو ما بيناه في الفتوى رقم: 7119. وهذا من باب الرخصة. إلا أن العزيمة تكون في الصبر على الصديق، ومعاملته بالحسنى، ومن حسن الخلق بين المسلمة وأختها: احتمال الأذى، كما بينه الإمام الغزالي في الإحياء. لكن لا يجوز هجر بقية الصديقات في المجموعة بسبب الإيذاء الحاصل من بعضهن؛ لقول الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {فاطر:18}.
هذا؛ وقد نص أهل العلم على أن صورة الهجر المحرم: أن يجتمع المتخاصمان مع الإعراض، والصدود، وعدم الكلام؛ جاء في شرح صحيح البخاري (لابن بطال): معنى الهجرة هو: ترك الرجل كلام أخيه مع تلاقيهما، واجتماعهما، وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له، وتركه السلام عليه، وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة، فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما. انتهى.
وقال ابن حجر: قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده، وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولًا، وقال أيضًا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام، وكذا قال ابن القاسم. فتح الباري لابن حجر.
ومن نعمة الله علينا: أن وسائل التواصل الإلكتروني تتيح فرصة التواصل على الخاص مع هؤلاء، إذا كان التواصل العام مظنة حصول الأذى من الصديقات المؤذيات.
وأما مسألة عدم ارتفاع أعمال المتخاصمين، كما في حديث أبي هريرة مرفوعًا: تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا؛ إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا. رواه مسلم. فهذا لا ينطبق على الأخت السائلة والله أعلم؛ فقد بينت في سؤالها أنها لم تقاطعهن ابتداء، وإنما رغبت في تغيير العلاقة من الصداقة الخاصة إلى الأخوة العامة، ولم يكن الدافع إلى ذلك خصومة، ولا شحناء، وإنما حصول الأذى من بعضهن، فإذا خاصمتك المجموعة لإصرارهن على الصداقة الخاصة دون مجرد الأخوة العامة، فالإثم عليهن لا عليك. كما أن مبادرتك بالسلام عليهن إذا لقيتهن يدل على أن الخصومة -إن وجدت- فإنما هي من طرفهن. أما الصديقات اللائي قاطعتِهن بسبب إيذائهن لك، فلا تمنع مقاطعتُهن من ارتفاع عملك، وعرضه على الله، لأن آثار الخصومة المذمومة لا تترتب على الهجر المشروع.
وأما الاعتذار للمجموعة: فإنما يطلب منك إذا بدرت منك إساءة نحوهن، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ، وَلَا دِرْهَمٌ, إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. رواه البخاري.
وأما مجرد الرغبة في التخفيف من عبء التواصل الاجتماعي دون الوقوع في الهجر، فهذا ليس مما يطلب الاعتذار منه، فلا يجب عليك الرجوع للمجموعة، بل ترك فضول الخلطة من أسباب صلاح القلب عند أهل العلم، فالاستمرار في التواصل على العام أو الخاص غير واجب، إلا بقدر ما يندفع به الهجر بين الأخوات، كإلقاء السلام عند اللقاء، وعدم الإعراض، وإنما يمدح التواصل شرعًا للتواصي بالحق، والصبر، كما في سورة العصر.
والله أعلم.