الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن لاستجابة الدعاء شروطا ينبغي للداعي أن يراعيها، ولها أسباب ينبغي الأخذ بها، وقد فصلنا كل ذلك في فتاوى سابقة، فراجع فيه فتوانا رقم: 11571.
ثم إننا لن نلتزم شرطك في عدم نقل كلام الأئمة، فليست المسألة توفر الكتب، ولكن انتقاء كلام الأئمة المناسب للسؤال، فكلامهم خير من كلامنا، وهم أبصر بالشرع وأعلم.
ثم إن ما ذكرته أولا من أن المقصود الحصر، وأن الحصر "إلا ليعبدون" أي: الدعاء، فغير صحيح إن قصرت الدعاء على معنى دعاء المسألة، قال المناوي في فيض القدير: قال الطيبي: أتى بضمير الفصل والخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء، وقال غيره: المعنى: من هو أعظم العبادة، فهو كخبر: الحج عرفة، أي: ركنه الأكبر، وذلك لدلالته على أن فاعله يقبل بوجهه إلى الله معرضا عما سواه، ولأنه مأمور به، وفعل المأمور به عبادة، وسماه عبادة ليخضع الداعي، ويظهر ذلته، ومسكنته، وافتقاره؛ إذ العبادة ذل، وخضوع، ومسكنة. انتهى.
والمعنى على هذا: أن القصر في: الدعاء هو العبادة، قصر ادعائي، أي: من أجل العبادة، كما تقول: زيد هو الطالب، أي: الذي يستحق اسم الطالب الحقيقي، وغيره مقصر، لا معدوم.
قال محمد عبد المنعم خفاجي في حاشيته على الإيضاح: القصر الادعائي: ما كان القصر الحقيقي فيه مبنيًّا على الادعاء والمبالغة بتنزيل غير المذكور منزلة العدم، وقصر الشيء على المذكور وحده... ووجه بلاغة القصر الادعائي هي: المبالغة. انتهى بتصرف.
وبالتالي؛ فما فهمته من قصر الحكمة من خلق الجن والإنس على الدعاء، ليس بصحيح.
ثم إن إجابة الدعاء تشمل الصور الثلاث، لا أنها ظنية لاحتمال عدم التعجيل.
وأما معنى: فليظن بي: فقد فصلها الطيبي -رحمه الله-؛ جاء في المرقاة: وقال الطيبي: الظن لما كان واسطة بين اليقين والشك، استعمل تارة بمعنى: اليقين، وذلك إن ظهرت أماراته، وبمعنى: الشك، إذا ضعفت علاماته، وعلى المعنى الأول قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46] أي: يوقنون. وعلى المعنى الثاني قوله تعالى: {وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} [القصص: 39]أي: توهموا. والظن في الحديث يجوز إجراؤه على ظاهره، ويكون المعنى: أنا أعامله على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني من ضر أو شر، والمراد: الحث على تغليب الرجاء على الخوف، وحسن الظن بالله، كقوله - عليه الصلاة والسلام -: "«لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»" ويجوز أن يراد بالظن اليقين، والمعنى: أنا عند يقينه بي، وعلمه بأن مصيره إلي، وحسابه علي، وأن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت. أي: إذا رسخ العبد في مقام التوحيد، وتمكن في الإيمان، والوثوق بالله، قرب منه، ورفع له الحجاب، بحيث إذا دعاه أجاب، وإذا سأله استجاب، كما في حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال عن الله تعالى: "«إذا علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت له»". وقال أبو طالب المكي: وكان ابن مسعود يحلف بالله تعالى ما أحسن عبد ظنه بالله تعالى إلا أعطاه ذلك، لأن الخير كله بيده، فإذا أعطاه حسن الظن به، فقد أعطاه ما يظنه، لأن الذي حسن ظنه به هو الذي أراد أن يحققه له. وقال ابن عطاء: إن لم تحسن ظنك به لأجل حسن وصفه، حسن ظنك به لأجل معاملته معك، فهل عودك إلا حسنا؟ وهل أسدى إليك إلا مننا؟ انتهى.
وما ذكرته في معنى "الحسنى" ليس ببعيد، ولكنك أسأت في تجاهل ما نقلته عن أكابر الصحابة في الآية، مع أن أهل العلم والتدقيق لا يرون بين ما ذكرت وبين قول الصحابة تعارضا؛ قال ابن عطية: وقال الطبري: الْحُسْنى عام في كل حسنى فهي تعم جميع ما قيل، ووعد الله تعالى على جميعها بالزيادة، ويؤيد ذلك أيضا قوله: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ، ولو كان معنى الْحُسْنى الجنة لكان في القول تكرير بالمعنى، على أن هذا ينفصل عنه بأنه وصف المحسنين بأن لهم الجنة، وأنهم لا يرهق وجوهم قتر ولا ذلة، ثم قال أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ على جهة المدح لهم، أي: أولئك مستحقوها وأصحابها حقا وباستيجاب".انتهى.
وقد روى مسلم عن صهيب عن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عز و جل-، ثم تلا هذه الآية: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }.
وأما أن الظن إذا بلغ مبلغ اليقين، تعينت الإجابة بصورة تعجيل المسألة، فليس بصحيح، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس يقينا دعا، فلم تُعجل الإجابة في بعض المواضع، كدعائه على قوم معينين.
ولا إشكال في ذلك؛ فإن من رحمة الله أن يمنع العبد من شيء قد يكون فيه عطبه، وهلاكه، ولذلك كان دعاء الاستخارة مبناه على التفويض التام لله لكمال علمه وقدرته، وهو مذكور بالفتوى رقم: 42384.
فقد يوقن العبد بربه، ويحسن الظن به، ويمنحه الله ما لم يطلبه، ويمنعه ما طلبه، ولو علم الأمر على وجهه، لما آثر باختيار ربه شيئا؛ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: قال ابن عباس في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ {الأنفال: 24} قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار، وقال الحسن -وذكر أهل المعاصي-: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وقال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير بقوله، سبني فلان، وأهانني فلان، وما هو إلا فضل الله -عز وجل-. وخرجه الطبراني من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله -عز وجل-: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من يطلب بابا من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير. اهـ (والحديث ضعفه الألباني، وغيره).
والله أعلم.